قضايا وآراء

محمود رمضان قصة مصرية لا تنتهي

1300x600
1300x600
القانون في مجمله هو مجموعة من القواعد التي تحكم وتنظم سلوك الأفراد في الجماعة وتوفق بين مصالحهم التي يفرض على مخالفها جزاء توقعه السلطة العامة. ولأن الجميع ملزم باحترام القانون فمن الطبيعي أن يشارك فيه أيضا الجميع، أو أن تكون الأفكار والمعايير الحاكمة لتلك القواعد القانونية ثابتة ومتجاوزة لتصادم المصالح الحتمي بين طبقات المجتمع.

وفي غياب تلك المعايير والأفكار يتحول القانون إلى وسيلة لخدمة ممتلكي أدوات القوة لفرض سيطرتهم على باقي المجتمع، وتقل حدة هذه السيطرة وربما إلى درجاتها الدنيا عند اشتراك أكبر قدر ممكن من طبقات وطوائف المجتمع في إنتاج القوانين، حتى في غياب الأطر الحاكمة، ويتطلب ذلك احتراما لنصوص القانون وإجراءاته من أصحاب الحق في تشريع وتطبيق القانون وتنفيذه، وربما يكون هذا الشكل هو الأفضل حتى في غياب العدالة الكاملة وفي وجود تضارب للمصالح. 

ولكن حفظ نصوص القانون في مستوي غير قابل للتلاعب يحقق جزءا كبيرا من أهدافه ولا تتحول نصوصه إلى وسائل للانتقام.

أول مراحل انهيار فكرة القانون في المجتمع هو انفصال طبقة حاكمة عن المجتمع، ومع ترسيخ سلطتها وسيطرتها على أدوات القوة يتحول القانون إلى وسيلة، لا لتحقيق العدالة قدر المستطاع، ولكن لتثبيت سلطة الطبقة الحاكمة، وحمايتها من الشعب، أو على الأقل الغاضبين من الشعب، وأيضا يصبح وسيلة لاستمرار تدفق الثروة لصالح الطبقة الحاكمة، وتبدأ في هذه المرحلة انفصال فكرة القانون عن العدالة، وتصبح نصوصا خالية من تلك القيمة التي أنشئت القوانين من أجلها، ومع الوقت، بعد انفصال النص عن قيمته –القانون عن العدالة- يرتبط النص مباشرة بالقاضي.

مصر تحكمها طبقة حاكمة منفصلة عن الشعب منذ قرون طويلة، ولم يكن للشعب المصري دور مباشرا في الحكم إلا فترات قصيرة للغاية طوال هذا التاريخ لم تلبث الطبقة الحاكمة إلا وانتزعت أي سلطة من الشعب، حتى لو استعانت بقوى خارجية في سبيل ذلك، فمحمد علي استعان بفرنسا لتثبيت أركان حكمه، وكوّن طبقة حاكمة تمتلك السلطة والثروة، ثم الخديوي توفيق الذي استعان بالإنجليز لحماية عرشه، ومن المهم ذكر أن الغزو الإنجليزي لمصر كان بعد عام تقريبا من إنشاء مجلس نيابي مصري يشير إلى احتمال كسر الطبقة الحاكمة التي تعمل دوما لمصالحها.

وبعد نضال طويل استطاع المصريون قبل انقلاب يوليو الأول في 1952 أن ينشئوا قوى مجتمعية تناطح الطبقة الحاكمة، فكانت جماعة الإخوان المسلمين والقوى العمالية اليسارية أقواها، وبدأ الإحساس بالخطر في إمكانية كسر الطبقة الحاكمة، فكان انقلاب يوليو الأول لتكوين طبقة حاكمة جديدة منفصلة عن الشعب، وهي طبقة الضباط، ولا يستطيع أي منصف إغفال الدور الأمريكي في هذا الانقلاب.

هذه الطبقة الحاكمة استطاعت السيطرة على كل أدوات القوة، وبنت لنفسها حوائط صد من المرتزقة التي تختارهم بعناية من مديري أدوات القوة، فأصبحت مؤسسة القضاء التي تدير القوة القانونية ومؤسستي الجيش والشرطة المحتكرة لقوة السلاح ومؤسسات احتكار صناعة العقل – التعليم والثقافة والإعلام - وبنية البيروقراطية التنفيذية، تحت السيطرة الكاملة.

ومؤسسة القضاء – أو هكذا تسمى – هي درع الطبقة الحاكمة الأخير والقوي الذي طال عليه الأمد، وأصبح ارتباط مرتزقة القضاء مرتبط ارتباطا لا فكاك منه، طال عليه الأمد فأصبحت نصوص القانون أدوات في يد "القاضي" خالية من العدالة، طال عليه الأمد، فأصبح القاضي هو القانون، والقانون هو القاضي، طال عليهم الأمد، وأصبحت عائلة القضاة روح شريرة تطارد أحلام مصر في الحرية وحتى الحياة.

لقد تجاوزت مصر مرحلة انهيار القانون الأولى بانفصال الطبقة الحاكمة، ودخلت في مراحل متطورة من انهيار احترام النصوص والإجراءات ذاتها، وكما ذكر سابقا أصبح القاضي هو النص والإجراء، وتجاوزنا أيضا هذه المرحلة، وفقد القاضي ضميره وإنسانيته وأخلاقه، وأصبحت المؤسسة جزءا من عصابة كبرى.

منذ زمن بعيد، والقضاء المصري ملكا خاصا للطبقة الحاكمة، وهو يتحرك في مساحات الفساد طبقا لحجم الضغط الشعبي، فهو ربما يحترم النصوص أحيانا، ولكنه في لحظات فارقة يتحول إلى غول السلطة وإحدى أدوات القتل عند تجاوز الشعب لخطوطه الحمراء.

في دنشواي 1906 عندما حكم ميدانيا بالإعدام على فلاحين مصريين بعد واحدة من أسرع محاكمات مصر، وأعدم أربعة مصريين، علينا أن نتذكر أسماءهم المنسية، حسن علي محفوظ، يوسف حسني سليم‏،‏ السيد عيسى سالم، ومحمد درويش زهران، ثم إعدام عمال كفر الدوار مصطفى خميس ومحمد البقري في محاكمة كوميدية في عام 1952، وإعدام عبد القادر عودة في 54، ثم سيد قطب في 65، ثم الحكم المهين على البطل سليمان خاطر في ثمانينيات القرن الماضي، تثبت تلك المؤسسة طوال تاريخها أنها لم تبنَ للعدالة، ولكنها أنشئت لحماية الطبقة الحاكمة من قوى الشعب، ويأتي حكم محمود رمضان الحاسم بإعدامه مع شكوك كبيرة حول قيامه بالجريمة، ليؤكد أننا نمتلك قدرا كبيرا من السذاجة، لأننا لا زلنا نأمل فيها أو في أي من مستوياتها خيرا.

إن محمود رمضان وسليمان خاطر و حسن علي محفوظ، يوسف حسني سليم‏،‏ السيد عيسى سالم، ومحمد درويش زهران ومصطفى خميس ومحمد البقري عبد القادر عودة وسيد قطب ومئات غيرهم، وربما سيكون مئات بعدهم ضحية صمت طويل وآمال كاذبة وأفكار مشوشة من قطاعات الشعب التي تمتلك القدرة على الفعل.

 إن محمود رمضان نموذج معاصر لضحايا دنشواي وكفر الدوار، ورسالة من الطبقة الحاكمة إلى الشعب أننا سنعيد التاريخ القديم وسيناريوهاته المتكررة في كل مراحل الصدام معنا، وعليكم الصمت والتراجع، كما فعلتم سابقا، وإلا سيكون هناك ألف محمود رمضان وآلاف من سليمان خاطر وحسن علي محفوظ.

وعلى الثوار رد الرسالة وسريعا، إما قبولها وإعادة سيناريوهات الماضي المتكررة التي ستكون واحدة من أكبر مساخر التاريخ، أو التحرك للأمام والقبول بالتضحيات الكبرى المنتظرة في صدامها مع طبقة الفساد المسلح لإنقاذ هذا الوطن المنتهك، وصدق الكذوب حين قال إنه ربما يجب أن يضحي جيلان كي تعيش مصر. 
التعليقات (0)