كتاب عربي 21

سيزيف التونسي والدولة الخبيثة

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
"عرق وبدايات من حرف الياء" هو عنوان مجموعة قصصية لجبرا إبراهيم جبرا. اختار عنوانها انسجاما مع مضامين قصصية تجعل المرء يقف على عبثية ماحقة فبعد إنفاق الجهد لعبور المسافة يجد المرء نفسه عائداً على بدء الطريق في سيزيفية عجيبة لا تبدو أن لها نهاية. هذا صباح الثورة التونسية ودولتها النموذج بعد أسبوع من العملية الإرهابية الأخطر والأبشع التي شهدها المتحف الأكبر بمنطقة باردو التي كان ذات يوم مركز الدولة وقصر سلطانها. 

•  لماذا نشعر بأن الغَزْلَ الديمقراطي في تونس يُنْكَث بعد سَدَاه؟

•  لماذا لا نشاطر أصدقاءنا العرب الذين يأملون خيرا في نموذجنا التونسي الذي نجا من الاحتراب الأهلي؟ 

•  لماذا يصرُّ الزعماء فقط على نجاحنا ولا يقفون عند خور مواقفهم الظاهرة للعيان؟

لدينا قراءة مختلفة لا تغُشُّ نفسها بتفاؤل كذاب فالغرغرينا وصلت العظم. وهذه حججنا ونأسف لقرائنا إن لم نسُق تفاؤلا مغشوشا.

طبقة رأس المال تستعيد نفوذها كاملا

الطبقة الفاسدة التي ربت ثروات مهولة تحت حكم الفاسد المستبد لم تخضع لأيّة محاسبة ووضعت أموالها تحت السرير حتى أمكن لها الخروج من جحور خوفها ثانية واسترجعت وقدرتها على الضغط السياسي بضمان مواقعها في القرار الاقتصادي وقد فهم وبعد فوات الأوان لماذا رفضت هذه الطبقة دائما التشكل في كيان سياسي يظهرها للناس ويضعها موضع مساءلة (كحزب يميني برجوازي). لقد خيرت دوما الاندساس في الأحزاب حتى اليسارية منها لتحمي نفسها وتدفع لمن يحميها فتحول الأحزاب إلى فِرَقِ فُتُوَّةٍ مهمتها حماية المموِّل فقضت على السياسة والسياسيين. هكذا حولت التجمع السابق إلى عصابة سياسية تموله فيحميها وهكذا فعلت بالأحزاب بعد الثورة دون أن نجد لها وجها سياسيا خاصا بها. هي طبقة فاسدة في سبل الكسب وفي سبل الدفاع عن مكاسبها وهي تفسد كل المشهد الآن بالاندساس فيه كجرثومة لم ينتج لها المجتمع مضادا حيويا ولا يبدو قادرا على ذلك أبدا.

وعشية العملية الإرهابية المدمرة للكيان الاجتماعي (دولة ومجتمعا) برمته ننتبه إلى هذه الطبقة وقد تملكت السلطة من جديد بعد أن مولت انتخابات الموتى في خريف 2014  من أجل هدف رئيسي لها هو  إسقاط الهيئة الدستورية للحقيقة والكرامة التي قد يكون من مهمتها المحاسبة طبقا للقانون. السياسي الفاسد الطامع فقط في مكسبه الشخصي يضع مطلبها على طاولة التفاوض السياسي باسم الوحدة الوطنية. فيصير التمسك بالدستور وبهيئاته المنتخبة مرادفا للخيانة الوطنية. وتخرج الطبقة الفاسدة المفسدة من المعركة رابحة. ويظل الحريصون على مصلحة البلد والثورة  عاجزين حتى عن التحليل بنظرية التآمر على المسار فالسؤال البدائي  في علم الجريمة "من المستفيد من الجريمة؟"  يصبح بدوره تشكيكا في الأجهزة وفي الدولة. أي خيانة موصوفة للوطن (وطن رأس المال الفاسد).

سنة 2015 التي أمل المؤمنون بالثورة والتغيير أن تكون سنة العدالة والمحاسبة ستكون سنة تصفية الدستور وهيئاته وإنقاذ الفاسدين من كل احتمال يسوؤهم فيستعيدون السلطة والبراءة وتدور ماكينتهم القديمة بزيت الفساد ويدفع سيزيف التونسي صخرته وحده مرهقا نحو قمة يخفيها عنه سياسي فاسد. 

حزب النهضة  كان أملا أخيرا وضَاع

بعد تجربة الحكم (2012-2013) صار حزب النهضة جزءا ثابتا من المشهد السياسي وغير طارئ وقُبِل بين الناس وعلى نطاق واسع بالرغم من التشويه الماحق لكل ما قام به. وفي فترة صعبة وبالرغم من الضربات تحت الحزام التي كالها له حلفاؤه أكثر من أعدائه لم تأكل السلطة من رصيده إلا القليل. وقد قرَّبت مشاركة قواعده في حملة الدكتور المرزوقي كمرشح من خارج الحزب بينه وبين الناس وزادت في تقدير الناس لهم باعتبارهم أحرارا وقادرين على التحرُّك بقناعاتهم الخاصة غير الموجهة وسقط عنهم توصيف القطيع الغبي التي يدمغهم بها أعداؤهم. لكن رغم ذلك تصرُّ قيادة الحزب على الانعزال عن هذه القواعد الشعبية المنتظمة منها في الحزب والمتعاطفة معه وغير المعادية له من خارجه والتي أملت كلها أن يظل الحزب في الحاضنة الشعبية يقودها ويوجهها ولا يأل بالا لتيار الاستئصال الذي يحاربه في دائرة السلطة الضيقة.

أميل إلى الاعتقاد أن جزءا كبيرا من قيادات الحزب تجهل الأمل الشعبي الذي عُلِّقَ على الحزب (وكان لها عليه دليل ساطع في انتخابات 2011) وصرفت جهد الحزب إلى المعركة مع تيار الاستئصال اليساري الذي سبب لها كل عقد النقص والرعب منذ ظهورها متجاهلة بأن هناك تقسيم أدوار بين الطبقة الفاسدة واليسار الفاسد والمرتزق في مفاصل الدولة خاصة في الإعلام والثقافة.

تقسيم الأدوار هذا اقتضي دوما أن يقوم اليسار بمطاردة النهضة في الحاضنة الشعبية لدفعها إلى التحالف مع طبقة رأس المال. وخوفها الأزلي من الإقصاء التي ذاقت مراراته (وحدها نعم) يترك لها منفذا وحيدا هو الاصطفاف وراء حزب نداء تونس (وهو اللافتة الخارجية للفساد والاستبداد) فتهرب من القطرة (الإقصاء) فتجد نفسها تحت الميزاب(التلاشي وفقدان المشروع). أو تهرب من رمضاء اليسار الاستئصالي الذي لا يملك إلا اللّغو الإعلامي إلى نار الحزب الحاكم الذي يملك أجهزة التصفية السياسية الجسدية.

وتمعن القيادة في ترويج المصالحة الوطنية وهي تراها تتقدم على حسابها كحزب وخاصة على حساب الثورة ومشروعها وبالأخص على ما أمِلَ فيه الناس البسطاء من أن تتحول النهضة إلى حزبهم المدافع عنهم أمام ماكينة القمع. يقول القيادي النهضاوي "عندما عذبنا لم يكن الشعب معنا. وتحملنا العبء وحدنا". ويغفل أن هذا المنطق هو نفسه الذي تريده السلطة أن ينعزل به عن الحاضنة الفاقدة للقيادة. إذ يشكك في حماسها وولائها.

يعمد الحزب الحاكم الآن إلى جر حزب النهضة كشريك ضعيف ليلعب دور الغطاء الأخلاقي لمناوراته الخسيسة ضد الثورة والدستور الذي فاز به البلد من كل المرحلة الانتقالية كمكسب وحيد. فتقدم المبرر/الغطاء بسمعته للفساد العائد في انتظار أن يؤدي الخَوَرُ الداخلي الذي ينهش حزب النداء إلى جعل البلد يسقط لقمة سائغة بين يديها وهي تمني نفسها وتنقل جمهورها بالمسكنات اللغوية وحدها إلى لحظة التمني العاجز بتغيير يأتي وحده دون كلفة نضالية وسط الحاضنة الشعبية. مضخِّمَةً في الآن نفسه دور الضغوط الخارجية على تجربة الإسلام السياسي وواضعة المشهد المصري في المقدمة كمبرر ساطع. إنه مسار العزلة الحقيقي والانقطاع عن الشارع الذي يبحث عن قيادة قوية(وسبب جيد لقهقهة الاستئصاليين). وهذه هي بوابة النهاية لكل الأمل في أن يقود تيار النهضة الشارع ويؤلف حول مطالب الثورة  وعلى أساسها بين المؤمنين بها بعد.

والمثير للسخرية السوداء أن ذلك يصور كانتصار على الاستئصاليين في النداء من اليسار الفرانكفوني الذي يجد نفسه رابحا بأخف الأضرار فالنهضة (العدو اللدود يتخلى عن موقع قوته دون دفع ثمن كبير) وتقسيم الأدوار بين طبقة رأس المال الفاسد وتيار الاستئصال يؤتي أكله بسرعة. لتجد النهضة نفسها من جديد في وضع الدفاع عن الحد الأدنى من وجودها وهي تروج الانتصار ويجد سيزيف النهضاوي نفسه يدفع الصخرة وحده مرة أخرى.

بدايات من حرف الياء 

مرة أخرى أفلح النظام القديم في إعادة توجيه المعركة الاجتماعية والسياسية مستثمرا في الإرهاب ولا يهم هنا إن كان يوجهه ليضرب في الوقت الذي يريد أم يستثمر في نتائج ضرباته التي لم يصطنعها فالنتيجة واحدة وضع النهضة  في وضع الملحق العاجز لا المبادر القائد.

عودة رأس المال الفاسد للسلطة دون محاسبة بما يعنيه من تمييع الدستور وهيئاته. وقطع الطريق على تشكّل الحاضنة الشعبية الواسعة (الكتلة التاريخية) حول أهداف الثورة وأهمها الحرية والديمقراطية الاجتماعية.وما سيأتي بعد ذلك سيكون بمثابة التصرف في الواقع القديم بالترضيات البسيطة عبر لجم الأفواه والضرب بيد من حديد على يد الاحتجاج الاجتماعي.

بعد 18 مارس 2015 تيتمت الثورة وفقدت الطبقات الشعبية أملها عبر لعبة قذرة وجهها رأس المال اللصوصي بعملية إرهابية أربكت الجميع إلا منفذيها وموجهيها. لقد عاد للبوليس السياسي مجال حركته كاملا وسيعود المناضلون القلة الصابرة إلى الدفاع عن الحد الأدنى من الحريات. ويؤجلون بدورهم الحديث عن تحقيق مطالب الثورة فهي الآن في أسفل الأبجدية وعليهم دفع الصخرة من جديد  إلى قمة لم تعد منظورة  وإعادة تهجي حروف الحرية. 

صار الأمر يحتاج إلى معجزة علم الاجتماع لا يقر بالمعجزات ولا يعتذر عن الحقيقة البائسة التي يراها تتوسع وتلتهم الأمل.
التعليقات (0)