قضايا وآراء

أيامي في كلية الدعوة الإسلامية (3)

محمود الفقي
1300x600
1300x600
لا يفوتني قبل ختْم هذه السلسلة المتواضعة الثناء على العميد السابق التقي النقي الدكتور صابر أحمد طه الذي لم يتوان عن تطوير الكلية والمناهج، وكنت عرضت عليه فكرة تخصيص حجرة مهجورة بالطابق الأرضي أجعلها محلاً لتدريس الإنجليزية للطلاب الجدد مجاناً، ورغم أن الفكرة لم تطبق إلا أنني أشكر همته ونيته الطيبة.

ففي بلادي أكبر مشكلة هي الإدارة وترشيد الموارد وقبلهما الهمَّة العالية، ولأنني وقد جُعلت فتنتي في هذه الدنيا في السيارات؛ كنت حريصاً على تدليل سيارتي (الثالثة)، ووقت ذهبت إلى مركز منية النصر لأحصل على شهادة المخالفات منذ الثامنة والنصف، ولم يحضر مدير النيابة الذي يوقِّعها إلا قرب الظهر، قابلته وقلت: يا افندم! مبارك الذي خلعه الثوار وأذلوه كان يصحو كل يوم قبل السادسة بادئاً بالرياضة وهو في الثمانين، مستديماً نمط الحياة هذا أكثر من ستين سنة! والحمد لله أن مرَّت بسلام ولم أُسجن رغم غضبه واحتجازه إياي!

في مكتب رعاية الشباب بالطابق نفسه كان خريج دار العلوم قد أدهشني لما حكى عن أستاذه الدكتور محمد عيد الذي كنت تحدثت إليه عن كتابه الذي ألفه منذ أكثر من أربعين سنة عن مقارنة بين الجرجاني وتشومسكي فسعدت لثقافته وحزنت أكثر لانزوائه، وفهمت أن العملة السيئة تطرد الجيدة، وأن جناية الجهل ليس في كسبه مساحة بل إفقاده العلمَ مساحات.

وقد كانت جناية المشتغلين بالدعوة أن أهملوا تعقب خريطة التفكير في الإسلام: متى بدأ وكيف سار ولماذا توقف وما حاله الآن؟

تاريخ التفكير في الإسلام لو كان سار بنفس القوة لما وجدنا تفرد ابن عابدين بحديثه عن نسبة اللقيط التائه إلى المسيحي ابناً لا إلى المسلم عبداً لأن الحرية مقدمة على الدين! 

هذا عين الداء، وليت الدعاة قد كفوا عن الاستسهال والكسل العقلي، فقد كنت معداً في قناة الهدى، وكان الشيخ يتمعر وجهه كثيراً ويغضب غضبة مضرية إذ أنبهه إلى أن كل ما يقول نسخة مسروقة وقع الحافر على الحافر من سلسلة الدار الآخرة للشيخ عمر عبد الكافي، وليست تلك المشكلة! المشكلة أن الغيبيات إنْ تفسرْ تفقدْ متعة تخيلها والسباحة في تأملها.

ضمن حلقات تقرير ماكميلان التي يذيعها مركز ماكميلان بجامعة ييل على الإنترنت مع النابغين في العلوم والفنون والآداب بإشراف مديرة الشؤون العامة مارلين ويلكيس، سعدت بالبروفيسور فرانك جريفيل؛ أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة إذ تحاوره مارلين في الفلسفة الكلامية للغزالي لتركيزه عليه وإفراده إياه بكتاب كامل، وقد ركز على كون الغزالي نقطة فاصلة بين المنطق الأرسطي وصناعة فكر كلامي (فلسفي) إسلامي متفرد لاسيما مع عناية هذا البروفيسور بالتطور الفكري لعلماء اللاهوت المسلمين.

وقد تصادف أنْ كتبتُ مقالاً متواضعاً أنصفت فيه الغزالي وبيَّنت فيه جناية طارق حجي، وسعدت أن وافق كلامي كلام البروفيسور جريفيل الذي بلغت منهجيته حد مقاربته الغزالي بمطالعة المخطوطة لا المنشورة ربما عشر مرات حتى يصل إلى الفهم الكامل، وكان عمله كما قال للمذيعة (المديرة) هو القراءة ثم القراءة ثم القراءة.

لقد أحدث الغزالي طفرة جعلته ينتقل بسلاسة من الفلسفة الأرسطية إلى علم الكلام الإسلامي، وبهذا ضمن للإسلام أن يهضم الفلسفة ويدشن فلسفته نفسها، وذلك في العصور الوسطى (لأوروبا، المنيرة للمسلمين).

وقد ألقى جريفل الضوء على خطاباته التي كتبها بالفارسية، والتي لم تطبع إلا منتصف القرن العشرين ونال بها الباحث نور الدين آل علي الدكتوراه من جامعة الجزائر في الستينيات، وهي قيِّمة جداً، وتكشف عن جوانب من شخصية الغزالي وجوانياته ومقارباته لكلام حساده، وخاصة نقده لأبي حنيفة ونصائحه للملوك والسلاطين والفقهاء.

إن غاية سَوقي كلام جريفل هو تأكيد انشغال الغزالي وغيره من العمالقة المسلمين بالعلاقة بين الوجود والخالق وتصور الخالق نفسه حتى وقت حديث جداً مثلما نجد فيما كتبه مجهول القدر محمد فريد وجدي عن التصور الإسلامي.

يحاكم البروفيسور سائر الأفكار والفلسفات في سياق ما يراه الخلقيون (المؤمنون) بصورة عامة ضمن سياق العصور الوسطى قبل الاستيقان من نظرية التطور (الانفجار الكبير وإلغاء فكرة الخلق، وبالتالي الإله نفسه والأديان) على حد تعبيره، ومع هذا فهو ينتصر للغزالي ويخال ما قدمه عظيما جداً جداً لاسيما في ترجيحه بين فكرة أن الله خلق أو تسبب في الخلق (المحرك الأول بتعبير أرسطو).

لكن النتيجة المدهشة التي أدركها البروفيسور هي مقاربة الغزالي للعلوم بطريقة حديثة، وهو ما أدهشه وكل التقليديين الذين ظنوا الغزالي ممن هدموا العلوم في الإسلام.

صحيح أن الغزالي مؤمن لكنه من وجه نظر البروفيسور محرض للعقل على التفكير في نشأة الكون، وإن كان بظنه أن الله نفسه خالق الانفجار العظيم!

أقول يجب أن تُفرد أبحاث لمعرفة السبب في بداية ضعف التفكير في الإسلام منذ القرن الخامس ودراسة مقولة ابن خلدون عن الباقلاني والجويني فيما نقله د. الأهواني في مقدمته لكتاب "سيرة الغزالي وأقوال المتقدمين فيه"، واستعراض ما قاله المقريزي (تلميذ ابن خلدون) في خططه، وكذلك مجهول القدر محمد رشاد سالم في مقارنته بين الغزالي وابن تيمية، وقد اخترت الغزالي لظهوره في فترة فاصلة آخر عهد الدولة العباسية مع بداية أفولها، ما يعني أن موضوع تجديد الخطاب ديني كبير جوي جوي يا بوي!

إن عدم إدراكنا لمشكلات ثقافتنا يتأسس على قاعدة علم النفس أن آخر ما عسى تكتشفه السمكة هو الماء؛ لأنها ببساطة مغمورة فيه. 

وأنا ببساطة لن أفقد إيماني لمجرد أنني وقد طالعت موقع الأكاديمية الوطنية للعلوم عرفت أن التطور نظرية (حقيقة) علمية أو لما قرأت بموقع ناسا أنه لا أثر يدل قط على أن طوفاناً بصفة طوفان نوح أو انشقاقاً للقمر حسب الوصف القرآني قد حدث، لأنهما لو كانا حدثا لكان لا بد أن يتركا أثراً.

العلم على عيني ورأسي، وتعريفه نفسه من منظور فلسفي (حسب كارل بوبر مثلاً): كل ما يمكن تفنيده، لكنني أيضاً لن أقبل بعد اليوم خطاباً دينياً يتأسس على كِبر زائف يقول فيه الشيخ محمد حسان: أنا وإخواني من العلماء الربانيين!!
0
التعليقات (0)