مقالات مختارة

مشاريع استئصال الإسلاميين

عبد الوهاب الأفندي
1300x600
1300x600
كتب عبد الوهاب الأفندي: في تسعينيات القرن الماضي، ساد بين أنظمة العالم العربي تيار ديدنه الإصرار على استئصال الحركات الإسلامية، وليس الاكتفاء فقط بقمعها وملاحقتها. ويعود هذا إلى شعور هذه الأنظمة الاستبدادية بأن الإسلاميين يشكلون المعارضة الأكثر فعالية لسلطانها بعد أن دجنت أو قضت على بقية المعارضين، ودعمت قوى معارضة شكلياً، مثل قوى أقصى اليسار في تونس ومصر، هذه السياسة، بل ضغطت لتبنيها. 

وقد بلغ الاجتهاد في تطبيق هذه السياسات الغاية في عدد من هذه البلدان، حتى بلغ حد القتل الجماعي وتدمير المدن على رؤوس أهلها، كما كان الشأن في سوريا والعراق، ولكن نصيب هذه السياسات الفشل الذريع، بل النتائج العكسية، ما يطرح أسئلة هامة حول طبيعة هذا الصراع وأطرافه ومآلاته، وما انشغلنا به في مداخلات سابقة حول طبيعة السلطة في الدولة الحديثة ومصادرها.

يعود الصدام بين الحركات الإسلامية والأنظمة إلى مطلع حقبة الاستقلال، وهي فترة شهدت خلافات سياسية متصاعدة حول وجهة هذه الدول السياسية. 

في مصر مثلاً كان محور الصراع أوضاع فلسطين، (حيث شاركت حركة الإخوان في الحرب هناك واعتقل مقاتلوها بعد عودتهم)، والوجود المصري في قناة السويس، (حيث دعمت الحركة العمل المسلح ضد البريطانيين). 

وانعكس هذا بدوره في صراع داخلي وصدام أدى إلى حظر الحركة واغتيال مؤسسها حسن البنا في نهايات العهد الملكي، وتفاقم في عهد عبدالناصر الذي كان رحب بالحركة وتعاون معها في أول أمره، بل وتبنى مواقفها حول فلسطين والوجود البريطاني. إلا أن إصرار زعيم الحركة القاضي حسن الهضيبي على ضرورة استعادة الديمقراطية فجر خلافاً أدى إلى حظر الحركة عام 1955، والحكم بإعدام معظم قادتها وعلى رأسهم الهضيبي. 

وفي عام 1965، أدت محاولات لإعادة إحياء الحركة إلى اعتقال ثم سيد قطب إعدامه، «مرشد» الحركة الجديدة التي لم يزد عدد أعضائها على عشرات.

لم تنجح هذه السياسة في إضعاف التيار الديني في الشارع المصري، بل على العكس، توسع التيار عبر قنوات أخرى، منها التدين الشعبي، ومنها قيام حركات متشددة في نهاية الستينات وبداية السبعينات. 

وينسب كثير من المراقبين انتعاش الحركة في السبعينات إلى تخفيف الرئيس أنور السادات من القيود على نشاطها. ولكن حقيقة الأمر هي أن السادات استعان بتيارات قائمة في صراعه مع بقايا التيار الناصري، ولو لم تكن هذه التيارات موجودة وقوية لما وسعه الاستعانة بها ضد تيارات متمرسة في الدولة والإعلام والوسط الأكاديمي ومؤسسات الدولة. 

ولعل الأصوب أن يقال أن تعاون بعض التيارات الإسلامية مع السادات أضر بها، وأن القيود ظلت قائمة على كل تيارات الإسلام السياسي التي بقيت محظورة قانوناً. 

وقد حققت حركة الإخوان رغم هذا نجاحاً لا بأس به في ضم قطاع كبير من هذه التيارات القائمة، دون نجاح في توحيد كل التيارات الإسلامية تحت قيادتها. وبعد أن لجأت تيارات راديكالية إلى العنف ضد النظام في الثمانينات والتسعينات، حاول النظام الاستعانة بحركة الإخوان لتخفيف غلواء الراديكاليين حيناً، وضيق عليها أحياناً أخرى بحجة أنها من مهد لهذه الحركات. 

ولكن سوريا ظلت بلا منازع رائدة التيار الاستئصالي منذ إصدار الرئيس حافظ الأسد القانون رقم 49 في تموز/ يوليو 1980، القاضي بإعدام أي منتسب لحركة الإخوان لا يعلن انسلاخه خلال شهر. وقد تم تطبيق ذلك الحكم بأثر رجعي على كثير من معتقلي الحركة، دون منحهم فرصة التخلي عن الجماعة. 

وقد تابعت تونس بحظر حركة الاتجاه الإسلامي بمجرد الإعلان عنها في عام 1981، وضغط الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة لإصدار أحكام بالإعدام على قادة الحركة قبيل الإطاحة به في عام 1987. أطلق الرئيس الجديد زين العابدين بن علي معتقلي الحركة، ولكنه عاد بعد فترة قصيرة إلى سياسة «استئصالية» أكثر تشدداً، تمثلت في اعتقال كوادر الحركة وتعذيبهم وتشريدهم.

ولم يكن العراق تحت حكم البعث أقل اجتهاداً في سياسة استئصالية ضد كافة أطياف التيار الإسلامي، من سنية وشيعية، وملاحقة وإعدام القادة، والحظر التام والعنيف لكل نشاط لهذه الحركات. وتبعت ليبيا المنهج ذاته.

وبعد نجاح جبهة الإنقاذ الإسلامي الجزائرية في انتخابات عام 1991-1992، قاد «الاستئصاليون» انقلاباً عسكرياً وحرباً أهلية استمرت قرابة عقد من الزمان، وراح ضحيتها مئات الآلاف. ولكن النظام الجزائري سمح ضمن استراتيجيته لحركات إسلامية معتدلة بالمشاركة السياسية، وذلك قبل أن يعقد مع جبهة الإنقاذ اتفاقاً لوقف الحرب عام 1999.

وبالمقابل، نجد بعض الدول العربية سمحت للحركات الإسلامية بهامش كبير من حرية العمل، كما هو الحال في الكويت والأردن (حتى هذا العام)، والبحرين والسودان (خلال الفترات الديمقراطية)، واليمن ولبنان وموريتانيا. كذلك سمح المغرب لحركات إسلامية بالعمل العلني في الثمانينات. 

أما دول الخليج، بخلاف الكويت والبحرين، فقد تعاطفت حتى وقت قريب مع الحركات الإسلامية ودعمتها خارج بلادها، وإن لم تسمح لها بالعمل داخلياً. وقد تغير هذا الموقف خلال الأعوام القليلة الماضية في السعودية والإمارات إلى عداء سافر وعنيف ضد الحركات في كل المنطقة.

ولعل أول ملاحظة هي أن الدول التي سمحت للحركات الإسلامية بالعمل السلمي ظلت هي الأكثر استقراراً في حياتها السياسية، بينما نجد هناك تناسباً طردياً بين زيادة القمع ضد الإسلاميين وعدم الاستقرار في الدول.

الملاحظة الثانية هي أن الحركات الإسلامية -المتطرفة والمعتدلة معاً- شهدت أكبر نمو لها في الدول التي كانت أعنف في قمع هذه الحركات، كما ظهر من تجارب مصر وتونس والعراق. 

وهكذا تتهم الحكومة السورية الآيلة إلى الاندثار كل معارضيها بأنهم إسلاميون، بينما تحكم العراق اليوم الحركات ذاتها التي اجتهدت حكومات البعث في استئصالها. وفي الجزائر التي لم تسمح لأي حزب إسلامي بالعمل قبل عام 1989، حققت جبهة الإنقاذ فوزاً ساحقاً في الانتخابات البلدية عام 1990، بعد أقل من عامين على إنشائها، وكانت في طريقها لاكتساح الانتخابات التشريعية لو لم يتم إلغاؤها وحظر الجبهة.

تطرح هذه النتائج أسئلة محورية حول أسباب فشل هذه السياسات الاستئصالية، وقبل ذلك سبب المواجهة في الأساس. 

نبدأ من النقطة الأخيرة، حيث نجد النخب الحاكمة سعت أولاً للبقاء في السلطة، وثانياً لتنفيذ أجندة سياسية-اقتصادية تهدف للحفاظ على كيان الدولة الموروث من الاستعمار وتنمية مواردها. كل هذا بأقصر الطرق وأقل التكاليف. 

وعموما، ترى هذه النخب في وجود أي تيار شعبي تعقيداً لا داعي له. فبرامجها التنموية تحتاج إلى تضحيات قد لا تقبلها قطاعات الشعب المتأثرة، كما أن سياساتها الخارجية تحتاج إلى مساومات قد لا «يفهمها» العامة. هذا في أحسن الفروض، بالطبع. ولكن في الواقع فإن النخب الحاكمة قد طورت، خاصة بعد طول مكثها في الحكم، أجندات ومصالح خاصة بها تواجه التهديد من أي حركة معارضة جدية. 

وقد أصبحت الحركات الإسلامية أكثر قطاعات المعارضة جدية، وأشدها استعصاء على التدجين والاحتواء، بسبب مواقفها المتصلبة ذات التكلفة العالية محلياً وخارجياً، ما جعل التخلص منها ضرورة كما أنه يحقق مكاسب خارجية. 

من جهة أخرى، فإن الحركات ساهمت في أحيان كثيرة في خلق حالة الصدام، غالباً بسبب تسرعها في مواقف معينة وتصلبها في مواقف أخرى. ويجب ألا ننسى أن قيادات الحركات ونخب الدولة كانت في معظم الأحيان محدودة القدرات والخيارات، ولم تكن تملك فهماً متعمقاً لأوضاعها ومآلاتها، خاصة في بداية تشكيل الدولة الحديثة المستقلة دون تجربة أو فهم نظري مكتسب. 

ولكن يبقى السؤال هو: لماذا فشل الاستئصاليون وبقيت الحركات وتمددت؟

(صحيفة القدس العربي اللندنية)
التعليقات (0)