كتاب عربي 21

دولة مدنية مرجعيتها الإسلام

محمد عمارة
1300x600
1300x600
عندما نتأمل -ونحن في القرن الهجري الخامس عشر- مبادئ دستور دولة النبوة، صحيفة دولة المدينة المنورة، الذي وضع سنة 1 هـ، 622 م- نجد الكثير من المبادئ الهادية للواقع الذي نعيش فيه.

فالتطور لا يعني إلغاء كل الماضي، وإنما تستصحب الثوابت الصالحة، ويغير القديم الذي لم يعد صالحا للأفق الجديد، فهذا الدستور لم ينسخ -جملة وبإطلاق- كل أعراف الجاهلية، بل أقر منها ما هو صالح لا يتعارض مع روح الشريعة، ولا يتصادم مع التطور الجديد، فالقبائل التي دخلت في التنظيم الجديد، وغدت لبنات في "الرعية السياسية" للدولة الجديدة، ظلت تتعامل في الديات وفق نظامها القديم.

وإذا كان هذا الدستور قد مثل "القانون الأعلى" الذي نظم "الواجبات" على الرعية، والذي ضمن ما لها من "حقوق"، فإنه استثنى "الظلم والإثم" وقرر أن لا حماية لظالم أو آثم حتى ولو كان من الرعية التي ارتضت الحكم بهذا الدستور، فنص على "أنه لا يحول هذا الكتاب –الدستور- دون ظالم أو آثم".

وإذا كانت "يثرب" –المدينة- قد مثلت وطن الدولة التي حكمها هذا الدستور، فلقد قرر هذا الدستور أن هذا الوطن حرم آمن لرعية هذه الدولة، وقرر في ذات الوقت، وفي نفس النص، أن لا حصانة لظالم أو آثم، حتى ولو كان معتصما "بيثرب"، عضوا برعية دولة هذا الدستور، و"أنه من خرج آمن ومن قعد آمن في المدينة، إلا من ظلم أو أثم".

وإذا كان تطور المجتمعات، وتعقد شئون الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية قد فرض ويفرض التطور في الآفاق وفي الصياغات اللازمة للدساتير المعاصرة، فإن قراءة هذا الدستور الأول للدولة العربية الإسلامية الأولى من الضرورات النافعة للأمة، رغم تجاوز واقعنا للملابسات التي قننها ذلك الدستور.

لقد حدد لنا هذا الدستور -اقتداء بالقرآن الكريم- أن المرجع عند الاختلاف هو كتاب الله وسنة رسوله، ففيهما "المبادئ" و"الفلسفات" و"الأطر" الحاكمة للواقع المعيش والمتغير دائما وأبدا والمتطور باستمرار، فتغير الواقع لا يعني تغير "فلسفة المرجعية"، وتطور القوانين لا يعني تغير "فلسفة التقنين والتشريع"، ولذلك نص هذا الدستور على المرجعية الإسلامية الثابتة للدولة المدنية، فجاء فيه: "وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد".

فالدولة الإسلامية قائمة على التنوع والتعدد في ديانات الرعية والأمة السياسية، ومن ثم فإنها ليست دولة دينية بالمعني الكهنوتي الكنسي، الذي تستمد فيه الدولة سلطانها من السماء، دون الأمة، والتي تحكم فيها هذه السلطة الجماعة المؤمنة فقط، وإنما -هذه الدولة الإسلامية- مدنية، الأمة فيها مصدر السلطات، شريطة أن لا تخرج هذه الأمة عن فلسفة الإسلام في التشريع والتي هي كليات عامة، وقواعد جامعة، أي أن السيادة في هذه الدولة هي للشريعة والسلطة فيها للأمة، ولا عصمة فيها للسلطان، لأن الأمة -المستخلفة في إقامة الشريعة- هي التي تختار الحاكم وتراقبه وتحاسبه وتعزله عند الاقتضاء، بينما الدولة الدينية مستخلفة عن السماء، ولا مكان فيها للأمة وسلطانها على الإطلاق.
3
التعليقات (3)
محيي
الأربعاء، 19-08-2015 08:50 م
هذا التصور الواضح والواقعي يمكنه. بناء أمة على أسس متينة تدوم وتتطور. ولا أظن هذا التصور الذي يربط الدنيا بالدين يناسب تصورات الحضارة الحالية المهيمنة على العالم.
اشرف
الثلاثاء، 18-08-2015 02:06 م
انه من الجدير ان نرى انه لا اختلاف بين منطوقين يراد بهم نفس المعنى الا وهما قيام الدولة على التعدد او نفى ذلك المعنى ورفضه انما يقصد به القبول بالتعايش اى بالجوار وليس الأعتراف بصحة العقيدة ولا اظن بالدكتور عمارة ظنا سيئا فاتهمه بالتلبيس البين وانما ياتى المعنى والتفسير لمنطوق كلامه بمعنى قبول التعايش والجوار وجزاكم الله خيرا
سعد الحارثي
الثلاثاء، 18-08-2015 11:40 ص
الدولة الاسلامية لم تكن يوما قائمة على التنوع او تعدد الديانات ... هذا تلبيس واضح انما هي قائمة على الاسلام وعقيدته والاسلام فقط ..! لكن الشريعة الاسلامية ضمنت حقوق كل الرعايا على اختلاف عقائدهم ودياناتهم ..وحددت ضوابط لذلك ..فالرعايا كلهم مشتركون في الحقوق والواجبات بحسب الشريعة الاسلامية الا مااستثني من ذلك العموم "وهم اصحاب الديانات والعقائد الاخرى" كاهل الكتاب حيث لهم بعض الخصوصية ! وتذكر اخي الدكتور المحترم ان الصحيفة اقرت "ان المهاجرين والانصار " هم امة من دون الناس فهي ميزتهم سياسيا وفكريا عن غيرهم من رعايا الدولة ..من ""الامم"" الاخرى كما جاء في الصحيفة لاحقاً ..!فلايستقيم هذا مع قولك قائمة على التعدد والتنوع في ديانات الرعية و....والامة السياسية .....! اما حقيقة ان هذه "" الامم"" بمافيها الامة الاسلامية تنظم علاقاتها فيما بينها الشريعة الاسلامية والكل يخضع لها وذلك ضمن نظام الهي دقيق شرعه الله سبحانه وتعالى لانه هو خالق الانسان والكون والحياة ..وهو سبحانه يعلم مايحقق للخلق العدالة والسعادة . فترى زعيم هذه دولة يقتص لرجل من ""امة اخرى "" قبطي مسيحي ...يقتص له من والي ذلك البلد ..مصر ..!! اما بالنسبة للسلطات ففيه تفصيل ياسعادة الدكتور ! فالسيادة هي للشريعة الاسلامية ولا يقبل سواها والسلطان للامة فهي التي تنتخب الخليفة وهومن ينوب عنها في تطبيق شرعها . والخليفة رجل يخطئ ويصيب وهو الذي يتبنى الاحكام في دولة الاسلام . ومبدأ المحاسبة من اهم ميزات هذا النظام ... فقد غيرت امرأة ..قانوناً كاد يقره عمر !! اما قولك ان القبائل التي دخلت في التنظيم الجديد وغدت لبنات في الرعية السياسية للدولة الجديدة ظلت تتعامل في الديات حسب نظامها القديم ... فهذا يناقض كون الحاكم مسلماً ويتبنى الاسلام شرعة ومنهاجا .. ويحكم باحكام الجاهلية في سلطانه وبين افراد رعيته التي يفترض ان يختار لها احكاما من احسن ما انزل الله ! لا اعتقد ان حاكما يحكم بين رعاياه في الهند بقانون غير الذي يتبناه لرعاياه في الحجاز او مصر !! وتقبل تحياتي