قضايا وآراء

بين الأمس واليوم .. أمثالنا الشعبية تشخص واقعنا

محمد حسني عودة
1300x600
1300x600
كم سمعنا الأجداد والجدات والآباء والأمهات يعلموننا الحكمة من الأمثال، ولا شك أنهم ورثوها أبا عن جد، وتعلموا كيف ينزلونها في مكانها وتوقيتها الصحيحين. عهدناهم أحرارا يقولون كلمتهم، وكم نتذكر عظم مقولة عمر بن الخطاب "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار؟". ولا شك أيضا أن تلك الأمثال استوحاها هؤلاء من انعكاسات لظروف وأحداث مروا بها، بين تداور الزمان وتغير المكان وتغاير الطباع بين البشر، ولكن بقيت تلك الانعكاسات مشتركة بين شعوب المعمورة، مما يؤكد وحدة التعبير عن الدروس والعبر من الأحداث ومآلاتها.
 
تحضرني كلمات للداعية الكبير والمفكر والفيلسوف الإسلامي الأستاذ المجاهد عصام العطار - نحسبه كذلك - وهو يخاطب الإنسان بقوله: "يا أخي الإنسان!  كيف أخاطبك وتخاطبني، وأفهمك وتفهمني، وأعاونك وتعاونني، إن جهلت لغتك وجهلت لغتي، ولم نأخذ بأسباب التعارف والتواصل، واكتشاف قواسمنا المشتركة في مواجهة الظلم، ونصرة الحق والعدل، وخدمة الإنسانية والإنسان؟!".
 
نعم إنها تلك الأمثال تصلنا بأجدادنا، نتعلم منهم ونشخص بها واقعنا كواحدة من الأدوات على مر العصور، فمثلا: يقولون الحر كرامته رأس ماله …
 
فإذا ذهبت كرامتنا فلا نكون أحرارا ولا رأس مال لنا. كم من نفس كريمة أزهقت، وكم من الحرائر امتهنت كرامتهن؟ وكم من الشرفاء كبلوا في السجون وامتهنت أعراضهم وكل خصائصهم الإنسانية؟ ولكن السؤال يطرح نفسه: من هو ذلك الحر الذي كرامته هي رأس ماله؟ هنا أتذكر كلمات قالها نبي الله عيسى عليه السلام، في آيات كريمات في سورة عظيمة، الوحيدة في القرآن الكريم التي سميت باسم امرأة طاهرة عفيفة، ألا وهي مريم عليها السلام: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (مريم/ 30) ، ولم يكن إلا أمرا دالا على العبودية لقومه: (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( مريم/ 36)
 
 إني عبدالله …
 
كانت تلك أرقى صفة اتصف بها عيسى عليه السلام، وهي مناط خلق الإنسان ليكون حرا بحرية تستمدها فقط من عبوديتها لخالقها، تلك هي صفوة العبودية لله الواحد الأحد، لا عبودية بشر لبشر ولا لغير بشر، ولكنها فقط لله للواحد الأحد الفرد الصمد، الذي يحيي ويميت، مالك الملك الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، وإذا قال لشيء كن فإنه يكون. آتاه الكتاب ليكون دستور حياة قومه، وجعله رسولا نبيا، وأوصاه بالصلاة والزكاة، ما دام حيا، ليتصل بخالقه، ويقوم بالفريضة الاجتماعية لتكون الزكاة، لا نظم القروض التي أرهقت الإنسانية، ولا فساد في عقائد أذلت الإنسان وحرمته حريته، فتسلط الظالم الفرعوني ومعه هامان وزمرته، اللذان أذاقوا البشرية في أمسها ويوما صنوفا من الظلم والقهر والذل.
 
وإن الله ربي وربكم فاعبدوه، هذا صراط مستقيم. لقد أكدها عيسى عليه السلام أن تلك العبودية هي صراط مستقيم .. ذلك الصراط الذي ندعوه في صلاتنا، في كل ركعة ونحن نقرأ سورة الفاتحة أن يهدينا ربنا إلى الصراط المستقيم.
 
ويقولون في المثل: ما يطلع من دار المطبلين إلا المزمرين …
 
كثر عندنا المطبلون وتنافسوا في آلات تطبيلهم، فأصبحوا مدارس تتمايز ليس في أسلوب تطبيلهم للظالم وتنميق صورته، بل في الترهيب من عدم الامتثال لظلمه وفتكه بحرية وكرامة الإنسان. تطورت مدارس المطبلين، فأصبحت تخرج مزمرين إذا سمعت مزاميرهم تأكدت لك شخوصهم، وكأنك تراهم رأي العين. فتراهم في التلفزة يشهرون أبواقهم الرخيصة، يمجدون ويسبحون بحمد الظالمين، فشتان بين هؤلاء في مزاميرهم وإعلام قوم داحس والغبراء، وجاهلية العرب الأولى التي كان الشعر فيها للهجاء والمديح، ولكن في قيمه التي فشل فيها إعلام ومزمري من سلبوا الإنسان كرامته، ففقد حريته ورأس ماله.
 
ويقولون في المثل: الحيط الواطي كل الناس تنطه …
 
عندما فقدنا كرامتنا فقدنا هيبتنا .. عندما تخلينا عن أمة الخيرية فلم نكن آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر .. عندما لم نلتزم أن نكون أمة التعاونية، تعاونا على الإثم والعدوان لا على البر والتقوى .. عندما تركنا الحديد الذي فيه بأس شديد ومنافع للناس أصبح بأسنا بيننا شديدا .. عندما لم نعمل بأمر الله لنا "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل"، أصبحنا نستورد قوتنا من غيرنا، بل لم نكترث من يكون غيرنا ما دام ما نستورده يحقق أهواءنا وشهواتنا. هنا أصبح حائطنا واطيا، ويزداد هبوطا كلما ازدادت شهواتنا. لقد قصر طول حائطنا، فأصبح من يزحف على بطنه يستطيع تسلق حائطنا.  
 
ويقولون في مثل آخر: الذي يربط في رقبته حبلا يلاقي ألف من يشده …
 
للأسف لم نربط حبلا واحدا حول رقابنا، ولكن ربطنا حبالا شديدة العقد، شديدة القوة في تماسك خيوطها .. أموالنا في بنوكهم .. بنوكهم تقرضنا بفوائدهم وحسب نظمهم، فيزداد الفقير فقرا، ويزداد الغني والظالم غنى، فاتسعت وتتسع الهوة بين الإنسانية أضعافا مضاعفة. يستعمرنا البنك الدولي وتسيطر عليه مجموعة معينة تعد على أصابع اليد في تكوينها، ولكنها لم تغصبنا أن تسيطر علينا. نحن من ربطنا الحبال لهم حول رقابنا، فيقيسون كم من الوقت نحتاج لنتنفس قليلا، ثم يتركون الحبل لذلك المدى، فكلما عظمت مصالحهم شدوا عقدة الحبل قليلا أو كثيرا حسب مقياس تلك المصلحة. لم نتبع الأسباب بعضها البعض، فكم أعطينا من الثروات التي أغناها عقيدة سمحاء، وصراط مستقيم، وأكرم وأطهر كتاب، وأعظم رسول نبي ليخرج الإنسانية من الظلمات إلى النور.
 
ويقولون في مثل آخر: ما أدخلك بيت عدوك؟ قال حبيبي فيه …
 
لا إنترنت نديره ولا شبكات عنكبوتية لنا فيها قرار. أصبحنا مسلوبي الإرادة، فلم نعد نستطيع الاستغناء عن وسائل التواصل الاجتماعية، فمن ناحية هي تساهم في ربط بني الإنسان ببعضهم البعض بروابط اجتماعية طيبة، إذا أحسن استخدامها وبتكلفة اقتصادية زهيدة، ولكن العم الكبير القابع هناك يحكم سيطرته ومعرفته بما يجول ويصول حول العالم بأشخاصه، ويستخدم خوارزمياته المتطورة، ذلك ليفهم ويتابع أنماط التطور الفكري والشهواني والبيئي والبيني عند أصناف البشر ومن يخصهم بعنايته .. كل هذا ونحن نسلم بخصوصيات بياناتنا ومعلوماتنا الشخصية، حتى أصبحنا لا نكترث ما تفعل بناتنا ونساؤنا وشبابنا من نشر لخصوصياتهم على الشبكة العنكبوتية. لو تخيل أحد منا يوما ما أن وسائل الاتصال الاجتماعية تلك قد تعطلت أو حجبت عنا أمتنا فماذا يحدث لنا؟ بالطبع لن نصاب بجلطة إلكترونية، بل ربما بنكسة تواصلية اجتماعية نحن في أشد الحاجة إليها. فإذا سحب من يعطيك الوقود وقوده، فكيف يمكن أن تطهو طعامك وتؤمن حاجات من تسلمت رعايتهم؟ ولكننا ما زلنا مثل الذي يصفع على وجهه ولكن يزداد ضحكا .. ذلك من يدخل بيت عدوه، فيقول أريد المزيد لأن حبيبي فيه !!!    
 
ويقولون: لو يرى الجمل حردبته لوقع وانكسرت رقبته …
 
كثير من حولنا تأخذه العزة بالإثم فيرى أنه وحده لا غيره، وأنه قد وصل إلى ما وصل إليه بنفسه وجهده فيأخذه الكبر والخيلاء، فلا يرى إلا أنه هو الحق وغيره الباطل، وأنه عمل ما لا يستطيع غيره أن يحققه، بل ازداد أحدهم في طغيانه ليصنف نفسه أنه يمتلك "فلاتر" لتنقية كلامه قبل أن يخرج للعامة، فهل ينظر هذا ومن هم في جوقته لحردباتهم حتى تنكسر رقابهم لخالق الخلق أجمعين الذي هو مالك الملك يعز من يشاء ويذل من يشاء.
 
ويقولون: كثر الرفرفة يكسر الجناح …
 
وهناك ممن حولنا من يرفرفون بأجنحتهم باطراد شديد، يصولون ويجولون إما ابتغاء شهرة أو وسيلة تمكنهم من الوصول لشهواتهم ومبتغاهم مهما كلفهم الأمر، حتى ولو تنازلوا عن قيمهم وتاريخهم، فتراهم في الفضائيات يتشدقون، وفي المنتديات الدولية ينظرون، وربما كان لهؤلاء تاريخ في حزب أو جماعة أو اتحاد، فتراهم وبأيديهم يكسرون أجنحتهم ويمسحون تراثهم الذي كان في وقت ليس بالقصير مكان تقدير واحترام من البعيد قبل القريب.
 
ويقولون: اتعب على أرضك تتعب عليك …
 
طالعتنا الأيام الماضية بمثال يفتخر به عالميا .. إنه مثال فوز حزب الحرية والعدالة، الحزب الحاكم في تركيا، ومكنهم فوزهم بنسبة مقاعد برلمانية تؤهلهم لتشكيل حكومة منفردين. قبلها بأشهر خسروا تلك النسبة المطلوبة، وتحالف ضدهم من لم يرغب بهم، وتعاضدت الجهود والأموال من هنا وهناك لتعطل فوزهم بنيل شرف خدمة أمتهم. لكل جواد كبوة، فكانت كبوتهم في الأشهر السابقة هي من جعلتهم يصهلون في أرضهم، بل جعلت منتخبيهم ومحبيهم من مواطنيهم يعون الدرس، ويحكون أجسادهم بأظافرهم، فباءت جهود المغرضين وتحول مكرهم في نحورهم لاطمين على أصداغهم. لا شك أن تلك النتيجة لم تكن وليدة الصدفة، بل هو العمل الدؤوب في نقل اقتصاد بلدهم نقلة نوعية عالمية شهد لها العدو قبل الصديق.

 
ويقولون: ما يبكي على الولد إلا الذي رباه …
 
تجبر المعتدون والمارقون على حرمة المسجد الأقصى، وتطاولوا على كرامة أمهاتنا وبناتنا وشيوخنا، فلم ينتظر أهل الأقصى نخوة لا معتصم، بل كانت هبة النساء قبل الرجال، والشيوخ مع الشباب والولدان اللذين ذادوا ويذودون بأرواحهم عن أقصانا لأنهم تربوا أن الأقصى جزء من عقيدتهم .. تعددت المقالات والتحليلات في جيل كهذا لم يكترث ولم يتأثر بثقافات ضرار دخيلة ولا أسلحة عدو عنصري فتاك، وفي المقابل، هناك ومن حولهم وفي أقطار أخرى أجيال مثلهم تعانقت أرواحهم كأنها جنود مجندة. لقد رأينا بأم أعيننا وعلى مسمع ورؤية العالم أجمع، كيف قلص هؤلاء الفجوة الرقمية ليكون هو الأقصى من فعل ذلك. لقد بكوا على الأقصى بعيون أنفسهم لا بعيون من رفرفت وترفرف أجنحتهم منكسرة ولو بعد حين.
 
هنا وبعد هذه الأمثلة والحكم الشعبية، يأخذنا الحديث للمثل أو الحكمة الأولى وهي "الحر كرامته رأس ماله". نعم هي تلك الإنسانية بعينها التي تستمد حريتها من خالقها، فلا تكون عبوديتها لبشر يجعلها من المطبلين المزمرين، وتعد ما تستطيع أن تعده، فلا تترك سور بيتها ينط عليه الزواحف وأشباه الزواحف، ولا تعطي الدنية في دينها وكرامتها حتى لا تربط الحبل حول رقبتها، ولا تدخل عش الدبابير باحثة عن العسل لتجد العسل ولكن مع دبابير تدلكها أحيانا لتمص رحيقها أبدا، وترى اعوجاجها فتقيمه وتصلحه فلا تغتر بنصر أو نتيجة مؤقتة تبعدها عن رسالتها وأهدافها بعيدة المدى، فلا ترفرف كثيرا وتتخايل وتستجدي من ندها وعدوها لشهواتها ومصالحها الذاتية، بل تبذل من التخطيط طويل الأمد وتنفذ بجودة نوعية في أرضها، وتحسن استخدام ثرواتها وتسهر على من يشتكي من جسدها، فتكون هي من يبكي عليه ويذرف الدموع ساهرة عليه تخفف عنه وتمهد له طريق الشفاء بإذن خالقها، فلا تكون إلا جسدا واحدا.
 
حفظ الله لنا إنسانيتنا وكرامتنا المستمدة من عبوديتنا لخالقنا  .. اللهم آمين.


 جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "عربى21" 
1
التعليقات (1)
هند عبدالعزيز المسلم
الجمعة، 13-11-2015 05:52 م
استمتعت بقراءة المقال وشدني عنوانه وتحركت رغبتي لمعرفة مدى التلازم بين شقي العنوان ( الزمن ،، والأمثال ) وقد ساعد اسلوب الكاتب في سحب فكر القارئ لهذا الفهم من خلال تصويره لنشأة الأمثال لظروف يمر بها الإنسان في فترة زمنية يعيشها فنحن امتداد للماضي ونحن من نمد المستقبل فتكون الإنسانية أرضية مشتركة مع امتدادها الزمني المكاني . جميلة تلك الأمثال التي استحضرها الكاتب ، وما أتى إي واحدٍ لمجرد ملأ فراغ ، بل تم توظيفه من قبل الكاتب على واقع نعيشه وتراه أعيننا (وبالذات واقعنا العربي الأليم ) وقد أبدع الكاتب حين أنهى مقاله من حيث ما بدأ مؤكداً أن حرية الإنسان تأتي من عبوديته لله وحده . بانتظار المزيد . ‏?

خبر عاجل