كتاب عربي 21

والمصحح قد لا يكون مصحصحا

جعفر عباس
1300x600
1300x600
من بين كل عشر سيارات في شوارع دول الخليج، تجد على زجاج على الأقل، اثنتين منهما عبارة "لا تنسى ذكر الله"، وكنت لحين من الزمان إذا وجدت شخصا أعرفه، وعلى سيارته تلك العبارة، بحيث تأتي "تنسى"، بألف مقصورة، أحدثه عن لا الناهية ولا النافية، وكيف أن "لا" في تلك العبارة حرف جزم، وبالتالي ينبغي لحرف العلة في آخر الفعل الذي يدخل عليه، أن يحترم نفسه ويتوارى، وذات مرة قال لي صديق متعلم: ما سمعت من غيرك أن هناك حروفا مريضة أو معاقة وأخرى سليمة، فقررت أن أحترم نفسي مع قوم يعتقدون أن العلة لا تكون إلا مرضا عضويا.

أعود مجددا إلى الكتاب الذي أصدره صديقي الدكتور عبد السلام البسيوني، عن تجربته كمصحح في عدد من المطبوعات، وقرأته وحمدت الله أنه لازال حيا يرزق، لأنني – وعن معايشة - أعرف أن التصحيح اللغوي يسبب ارتفاع ضغط الدم و"السكري"، والبواسير، وانفلات الأعصاب.

عندما كنت أعمل في صحيفة الاتحاد الإماراتية، كان معنا مصحح لبناني لسانه متبرئ منه، يصيح بين الحين والآخر: الله يلعن أبو.... ثم يسكت، ويكمل الجملة "أبو اليوم يللي اخترت فيه هالشغلة"، ويصمت لدقائق ثم يرتفع صوته: يا فلان يخرب بيتك، ولأنه كان يذكر اسم كل محرر يخلخل معمار اللغة، فقد كنا حريصين على تفادي تعريض بيوتنا للخراب، بأن نتبادل النصوص لتقصي صحة جُمَلِها ومفرداتها إملائيا ونحويا، قبل أن تقع في يدي صاحبنا.

وقلت في مقال سابق، إن معظم الصحف تمارس التقشف في وظائف التصحيح، وتكتفي بمصحح واحد لكل نوبة عمل، ويا ويل المصحح الذي يعمل في النوبة المسائية، لأنه يكون مسؤولا عن الصفحة الأولى، التي تكون مخصصة عادة للأخبار والعناوين المهمة، التي تتضمن بالضرورة تصريحات وإنجازات أهل الربط والعقد (جماعتنا لا شأن لهم بـ"الحل").

ونجد في كتاب البسيوني، نماذج لأخطاء من الواضح أنها نجمت عن غفلة المصحح، أو عدم وجود مصحح، فبعد هزيمة 1967م حدث أن قام طلاب الإسكندرية بإضراب شامل احتجاجا على الأوضاع. وبعد حالات توسط من الرئاسة تم إنهاء الإضراب، وفي صباح اليوم التالي من الإضراب نزل عنوان صحفي في صحيفة الأخبار المصرية كالتالي: كلاب الإسكندرية ينهون إضرابهم، ولم تكن الصحيفة بأي حال تهدف إلى الإساءة إلى الطلاب، ولكن  نشأت أزمة بسبب هذا الخطأ، وعاد الطلاب لإضرابهم، وثارت رئاسة الجمهورية على هذه الصحيفة التي أصبحت مكروهة من الطرفين!

شغلت الدكتورة حكمت أبو زيد منصب وزيرة الشؤون الاجتماعية في مصر، لنحو عقدين، في عهد جمال عبد الناصر، وذات يوم من ذات عام، قامت بجولة في منطقة كفر الشيخ، وفي اليوم التالي نشرت صحيفة تقريرا مطولا عن تلك الجولة، عنوانه "حكمت أبو زيد تتبول في كفر الشيخ"، ولك أن تتخيل ما فعله صلاح نصر وجماعته في المخابرات المصرية، بالموظف البسيط الذي كان مكلفا بطباعة الخبر ثم بالمصحح لأنه لم يكن مصحصحا بالدرجة المطلوبة.

ويتحمل من قام بالصف (الطباعة)، ومن بعده المصحح ثم مدير أو رئيس التحرير، تبعة خطأ كالذي وقعت فيه الأهرام المصرية عندما أرادت حث المسؤولين على تجديد شباب القضاء، ونزل العنوان كالتالي: الأهرام يطالب بتجريد ثياب القضاة!  

وكل من عمل بالصحافة يعرف أن مثل هذه الأخطاء ترد كثيرا، ليس بالضرورة نتيجة غفلة، بل لأن الإنسان كثيرا ما يقرأ كلاما على النحو الصحيح، رغم أنه قد يحوي خطأً صارخا، فالعين البشرية كثيرا ما تفشل في تحديد مواطن الخلل في الكلمة أو الصورة، بسبب ما يعرف بالخدعة البصرية، فلو قلت لمجموعة من الناس اقرأوا "الله أكبر ولله ولله الحمد"، لن ينتبه معظمهم إلى أن "لله" مكررة، ومن ثم يفوت على القائمين على أمور التحرير والتصحيح الصحفي، رصد أخطاء الطباعة والصف، لأنهم يصححون الخطأ ذهنيا ولا ينتبهون إلى الخطأ الماثل أمام أعينهم.

ومن ثم تحدث أخطاء فاضحة ومضحكة: وزير الـ... يختفي بالوزيرة الزائرة، بينما المقصود: يحتفي بالوزيرة! وانقلاب عسكري في مدينة...! بينما متن وفحوى الخبر أن رجل المرور في إحدى، المدن انقلبت به الدراجة النارية!

وأم الكوارث: عورة وزير الأوقاف والشؤون الدينية! والمقصود: عودة وزير الأوقاف (عاد ماجت إلا في وزير الأوقاف، في ظل سطوة شمس الدين بدران وصلاح نصر في مصر الناصرية)!
التعليقات (0)