قضايا وآراء

مؤتمراتنا البحثية العلمية بين الجد والهزل

محمد حسني عودة
1300x600
1300x600
كثيرا ما تتساءل النفس اللوامة فيما بينها عندما تمر بأحداث معينة، ثم ما يلبث أن يمتد تساؤلها خارجا عنها لتجد أنفسا لوامة مثلها، وكأنها جميعا أرواح كجنود مجندة يوقظها سؤال يدور في خلدها: هل نأمل أن نشهد تغيرا حقيقيا (لا سطحيا) على مستوى جديتنا وإخلاصنا في طريقة تناولنا للبحث العلمي وأولويات ما يبحث، ومن ثم النهوض العلمي بأمتنا لترقى إلى المستوى الذي تستحق أن تكون عليه؟ كيف لا وهي أمة نزلت أول أية في كتابها الكريم ("اقرأ" سورة العلق) تحث على المعرفة والعلم بطريقة مؤصلة. الإخلاص في هذه الآية ركن أساسي في طريقة البحث والاهتداء إلى الحقيقة المعرفية، وذلك أن يكون ما تبحث عنه وفيه باسم الرب مخلصة له في توحيد الربوبية والعبودية، ومن أحد مقتضياتهما الإحسان والإتقان في العمل، الذي قعّد لهما رسول الهدى صلى الله عليه وسلم عندما أوصانا قائلا: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"، أخرجه أبو يعلى والطبراني، وصححه الألباني.
 
المؤتمرات العلمية البحثية صروح علمية متنقلة تنشر العلم ونتائج البحث العلمي فور ولادتها في بحوث علمية محكمة من قبل ثلة من العلماء، كل في عمق تخصصه لتتعاضد تلك النتائج البحثية العلمية خادمة للإنسان الذي هو خليفة الله في أرضه. وإذا روعيت أسس وأهداف تلك المؤتمرات المتنقلة عبر تغير الزمان والمكان، عندها تكون تلك الصروح العلمية هي الحاضنة والملتقى للعلماء وطلاب العلم في شتى مستوياتهم ودرجاتهم العلمية، ينهلون من علم بعضهم البعض، وينشؤون شبكات للبحث العلمي، بل التأسيس لمشاريع علمية بحثية مدعومة ماديا من مجالس بحثية وطنية وعالمية، ليس فقط بين أبناء الدولة الواحدة، بل بين علماء القارات جميعا. فعندها تكون تلك المؤتمرات قد حققت ليس فقط النشر العلمي لنتائج البحوث العلمية، بل تصبح الأداة لتسهيل البحث العلمي البيني بين علماء المعمورة، وذلك ما يحقق التعارف المعرفي والتراثي بين بني أدم، تحقيقا لقول الله عزوجل:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى، وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) الحجرات). هنا تكون المفاضلة على أساس التقوى، فالعلماء هم الذين يتقون الله عز وجل حق تقاته في علمهم وفي شهادتهم على ما يقومون فيه وعليه من إشراف علمي وبحث تخصصي وإدارة لشؤون مؤتمراتهم: (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) فاطر).
 
اليوم، وللأسف الشديد وبألم يعتصر القلوب، نشهد تخلي الكثير من علماء الأمة عن البحث العلمي الرصين، وعن المنهج البحثي الاستقرائي الذي أسس له علماؤهم الأوائل في عصور النهضة الإسلامية، ذلك المنهج الذي تفضل وأثرى في نتائجه على الأمة الإنسانية جمعاء، فلم تكن لتستطيع أن تركب بل تصمم وتصنع الطائرات وتبرمج الحواسيب المعقدة مطورة بعلم الخوارزميات، ذلك الذي قدم له علم الجبر وحل المعادلات الرياضية الجبرية بطريقة خوارزمية.

سنوات وشهور وأسابيع وأيام تمضي ويعقد فيها العشرات بل المئات من المؤتمرات العلمية في شتى العلوم الطبيعية والإنسانية وغيرها، ولكنك تشهد بل تكون شاهدا حقيقيا - لا شاهد زور ولا مجاملة - لتقيم نتائج عقد تلك المؤتمرات في ربوع بلادنا. ما نشهده ونشهد عليه اليوم تدني المستوى العلمي للمؤتمرات (في الكثير منها) التي تعقد في بلادنا لدرجة تجعلك تتأسف على الجهد والمال والوقت الذي يصرف لعمل تلك المؤتمرات. ولكنك ترى وتلحظ أصحاب ورعاة المؤتمرات في جديتهم يحرصون على أمور كثيرة نلمس من أهمها:
 
أولا: استخدام المؤتمرات كأداة للسمعة والشهرة لجامعاتهم، وذلك أمر محمود نؤيده ونثمنه عندما يكون متلازما مع تحقيق أهداف تلك المؤتمرات في أصل التخطيط لها، فلا تكون السمعة والشهرة هما الهدفان الأساسيان، حتى وإن كلفا في تحقيقهما درء الحسنة بالسيئة، فتصاب المؤتمرات البحثية العلمية بصعقة كهربائية تشل أداءها لسنوات متتالية، وربما تنهي عملها ودورها.
 
ثانيا: مراعاة المحسوبيات والمحسوبين على أجندتهم السياسية (ولا أقصد سياسة دولة أو حكومة) بحيث تتكامل مع أجندتهم الأولى في السمعة والشهرة.
 
ثالثا: استخدام المؤتمرات العلمية للخطب الرنانة والمجاملات والدعوات الرسمية التي قد تعطل برامج مؤتمرها، لتجعل العالم الباحث يتساءل وبصدق وإخلاص: لماذا هو ممثل أو يمثل مؤتمرا تكون تلك هي أجندته وجزء من أعماله؟ عندها يتسع تساؤله ليقول: كيف للعلم والبحث العلمي أن يلتقيا مع طرق وأجندات كهذه؟ وعندها يصل ذلك الباحث إلى نتيجة خطيرة وهي وجود انفصام في الشخصية بين المؤتمرات البحثية العلمية وأخلاقيات عمل وأداء تلك المؤتمرات، لأن الكل جزء لا يتجزأ من شخصية تلك المؤتمرات البحثية العلمية والتي من المفترض أن تكون شخصية قويمة مقومة بأدوات مقننة.
 
رابعا: التقتير في بذل المال فيما يخص نجاح أهداف المؤتمر، والتبذير فيما يخص نجاح أجنداتهم السياسية وتلك المتعلقة بالشهرة والسمعة.
 
خامسا: تبادل الدروع واللوحات بشكل مبتذل، وكأنك في ناد رياضي أو في مباريات لكرة القدم بين الحواري والزقاق أو بين البيوت في الحارات القديمة.
 
ولكنك إذا غضضت الطرف عن كل تلك السلبيات لتقول: دع هؤلاء يحققون ما يبغون ولنعقد مؤتمراتنا مهما كانت النتائج متواضعة. عندها تجد الكثير المثير الذي يجعلك تعيد النظر مرات فتلمس الهزل المصاحب مقابل الجد المرجو لتلك المؤتمرات والتي من أهم الهزل فيها:
 
أولا: عدم تخصيص المؤتمر بمواضيع علمية محددة، بل التركيز في العموميات دون استقطاب بحوث علمية متخصصة متميزة، لأن تلك البحوث ينشرها أصحابها في مؤتمرات رصينة ودوريات دولية علمية محكمة ذات تأثير واسع، ولا تخضع لأجندات سياسية أو متعلقة بالشهرة والسمعة.
 
ثانيا: عدم الاهتمام والتدقيق في تعيين اللجان العلمية والإدارية والتوعوية والمالية ذات الكفاءة المطلوبة.
 
ثالثا: ضعف إدارة عملية تحكيم الأوراق البحثية العلمية، ونقص في كفاءة المحكمين أنفسهم.
 
رابعا: التركيز على الجوانب التراثية (وهذا نشجعه ونحبذه) ولكن بشكل يطغى على الجانب العلمي البحثي للمؤتمر، فكم يمكن استخدام الزيارات للمعالم التراثية والحضارية تشجيعا لكثير من العلماء المتميزين في الشرق والغرب بغية استقطاب مشاركاتهم المتميزة في مؤتمراتنا.
 
خامسا: عدم الاهتمام بالعلماء الزائرين المتميزين واستقطابهم للمشاركة في نقل المعرفة البحثية وطرق ومناهج البحث العلمي، ناهيك عن إنجازاتهم العلمية المتميزة.
 
سادسا: عدم التدقيق فيمن يدعى ليكون متحدثا رئيسيا لمؤتمر بحثي علمي محكم، فربما تصدم بمتحدث يلقي محاضرة وكأنها ورقة بحثية في مؤتمر متخصص ودون المعرفة الحقيقية بأسس عمل محاضرة كمتحدث رئيسي في مؤتمر واسع الشمول في تغطيته.
 
سابعا: خلل وتقصير شديدان في تركيبة وأداء لجان المؤتمر وأهمها اللجنة التنفيذية للمؤتمر، والتي من المفترض أن يتشكل أعضاؤها من علماء ذوو باع في تنظيم المؤتمرات والتميز في بحوثهم العلمية وخبراتهم التطويرية، وردم الهوة بين البحث العلمي والتطبيق الصناعي. ولكننا، وللأسف الشديد، نشهد العجب العجاب في أمة فيها من العلماء الأفذاذ لا يكون لهم دور في لجنة كهذه، بل ربما تجد من يحضر منهم أياما يقضيها، فلا فرق إن حضر أو لم يحضر في تقييم وتقويم أداء المؤتمرات التي ينتمون إليها، أي أن حضور ذلك العضو في تلك اللجنة تحصيل حاصل من إقامة وترفيه وتسوق، فيصبح دوره الأساسي قد وضع في "ثلاجة نيتروجينية"، لا تعلم إن كان دوره سيخرج موقظا ليؤدي بعد نزوحه تلك الثلاجة أم سيعود ماكثا فيها إلى أن يشاء الله.
 
وفي ختام هذه العجالة من التقييم لمؤتمراتنا البحثية العلمية، يتضح لنا كيف أننا وضعنا الأمور في غير نصابها أسوة بالكثير من أمورنا، ويكمن السبب من أساسه في عدم إخلاص العمل لله وحده سبحانه وتعالى، تاركين مبادئ الإحسان والإتقان التي نحن من كنا روادها في عصور كثيرة مضت، فأخذ بها الغرب وحضارات بلاد أخرى مثل اليابان والصين والهند وكوريا الجنوبية وغيرها، ودائما ما نتذكر وبألم كيف كانت كوريا الجنوبية خلف مصر الحبيبة في تألقها، ولكننا نشهد ما نشهده لمصر الحبيبة في تقهقرها عقودا بل قرونا من الزمن البحثي العلمي.

ومن هنا، أعرج على مصطلحين أطلقهما (إن جاز لي أو من قد يكون قد سبقني لذلك) تشخيصا لواقع وضعنا البحثي العلمي، وأنادي بوحدة قياس جديدة نقيس بها ليس العجز المالي لدولنا ومجتمعاتنا، بل العجز المعرفي والعجز البحثي. ومن هنا أقترح أن يقاس العجزان بالسنوات ومن ثم بالعقود ثم بالقرون. عندها دعونا نصارح أنفسنا ونقول هل تأخرنا عقودا أم قرونا؟ وكم نتأخر أضعاف تلك الأزمنة بسبب الحروب والتقسيم الطائفي والمصلحي، بل الأدهى والأمر هو أولا سحق الهوة بين العلم وأهل من ينتمون لمجتمع العلماء، وثانيا سحق الهوة بين من يسوسون الأمور في بلادنا وبين من يقودون دفة العلم والتعلم والتعليم، بل البحث العلمي الرصين، وثالثا أن من يقود دفة العلم وأهل العلم قد تخضرم عقله وقلبه بالسياسة لتطغى على العلم والبحث العلمي.
 
اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها .. اللهم آمين.
1
التعليقات (1)
باحث
السبت، 19-12-2015 11:29 م
أؤيد الكاتب فيما يقول. لقد أصبحت مؤتمراتنا ملتقى اجتماعي للتعارف وبناء العلاقات والمجاملات. أما المستوى العلمى فلا يرقى الى المستوى المطلوب. أصبح الهدف من البحث العلمي في بلادنا هو الترقية أو الحصول على الشهادة العلمية. أما الوصول الى تقدم يغير على حياة الناس والمجتمعات فهو أمر بعيد كل البعد عن مؤتمراتنا. ونرجو من الله استجابة الدعاء "اللهم ارزقنا علما نافعا وانفعنا بما علمتنا".