مدونات

من يأتينا بخبر القوم؟

مصعب خلف
مصعب خلف
كانت ومازالت "المعلومة" سلاحا استراتيجيا فعالا قادرا على التأثير الحاسم في مسارِ أعقد الصراعات العسكرية والسياسية ، ولقد أدركت الأمم المختلفة منذ غابر العصور أن الزيادة في الترسانة العسكرية وإعداد الجُند دون التقدم في ميدان امتلاك المعلومة، ما هو إلا حراثة للماء ورقص في الهواء، وقد كان المبدأ الرباني -قبل ذلك كله- حاسما بهذا الشأن: (أفمن يمشي مُكبا على وجهه أهدى، أمن يمشي سويا على صراط مستقيم).

لم يغِب دور المعلومة في الصراع العربي "الإسرائيلي" يوما، فلقد أبدى الجانب "الإسرائيلي" اهتماما بالغا بهذا الشأن منذُ الأيام الأولى لنشأةِ كيانه، فقام في عامه الإحتلالي الأول بإنشاء جهاز المخابرات الداخلي المعروف بـ (الشاباك أو الشين بيت) لإحباط أي فعلٍ فلسطيني مقاوم وتجنيد العملاء وتزويد الجيش بالمعلومات الحساسة، وفي النصفِ الثاني من العام 1949 تم تأسيس جهاز الإستخبارات والمهمات الخاصة الخارجية (الموساد) لجمع المعلومات الإستخبارية عن دول الإقليم والتحركات الفلسطينية في الخارج، والقيام بالعمليات الخاصة والسرية خارج الحدود.

أما في عام 1950 أي في العام الثاني لنشأة الكيان فقط، تم تأسيس شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، وهو الجهاز المخابراتي الأكبر في الكيان، والمعني بتقديم التقييمات الاستخبارية الاستراتيجية التي تصوغُ السياسات العامة للدولة وتوظف لصناعة القرار المركزي.

ولقد لعب إدراكُ "اسرائيل" المبكر لأهمية امتلاك المعلومة الدقيقة في الزمان والمكان المناسبين دورا مهما في رسم مسار الصراع على مدار سنوات الإحتلال الثمانِ والستين، فلقد تقررَ أن امتلاك "اسرائيل" في حرب الـ 48 لمعلومة غياب التنسيق العربي المشترك، ولمعلومة انتشار الأسلحة الفاسدة وضعف التدريبات والاستعدادات العامة، الدور الكبير في الهزيمة التي منيت بها الجيوش العربية، الأمر الذي لم يتم تداركه في الحروب والمواجهات اللاحقة، والذي استمرت "اسرائيل" في توظيفه لصالحها، حتى وصل الأمر بها في عام 67 إلى اعتمادِ خطةٍ عسكريةٍ نشرها الصحافي الهندي "كارنجي" في كتابه (خنجر اسرائيل) مؤداها أن يدمر سلاح الجو "الإسرائيلي" طائرات الجيش المصري في مخادعها على الأرض، لتأكدهم من معلومة أن قيادة الجيوش العربية في غيابٍ تام عن الأحداث والمتغيرات المحيطة.

دفعَ الجانب العربي والفلسطيني طويلا ثمنا باهظا نتيجة إهمال هذا الجانب، تمثل في اغتيالاتٍ متكررةٍ للقيادات الوطنية الفلسطينية السياسية والعسكرية، وفي تلقي ضرباتٍ استباقية عدة أخرت الفعل المقاوم، وصنعت حالة من اليأس والإنهزام النفسي لدى قطاعٍ من أبناء الشعب الفلسطيني، قادتهم فيما بعد -مع عوامل وظروفٍ أخرى- لنحوِ منحى التسوية السياسية والاعتراف بشرعية دولة المحتل.

على الصعيدِ المقابل، كانت حالةُ التفوق الاستخباري "الإسرائيلي" حينها حافزا كبيرا لدى قطاعٍ آخر من الشعب الفلسطيني للتعامل مع المعطيات الأمنية بحنكة وحرفيةٍ أكبر، فيذكرُ (عبدالحكيم حنيني - أحد مقاومي القسام الأوائل) في شهادته على العصر عبر الجزيرة، أن الشهيد (جمال منصور - أحد قيادات حركة حماس) كان من مؤسسي جهازٍ أمني مقاوم ، أُطلقَ عليه اسم (مجد) وكان يُعنى في البدايات بجمعِ معلوماتٍ عن شبكات العملاء في الضفة الغربية، وتطور فعله فيما بعد لاتخاذ إجراءاتٍ أمنيةٍ مختلفة ضد من ثبتت عمالته، وأيضا اعتمدت فصائل المقاومة حينها أسلوب عمل الخلايا المنفصلة التي من شأنها تقليل هامش المعلومات المتنقلة بين أفراد الفصيل، وتخلقُ حالة أكبر من السرية والعمل بصمت.

حقق الطرفان، المقاومة الفلسطينية من جهة والمخابرات "الإسرائيلية" من جهةٍ أخرى نجاحاتٍ وإخفاقاتٍ متعددة، تمثلت في عملياتٍ هزت العمق "الإسرائيلي" مرة، وفي عمليات كشفٍ لخلايا واغتيالاتٍ لقياداتٍ مقاوِمة مرة أخرى. إلا أن زيادة اهتمام المقاومة الفلسطينية في الجانب المعلوماتي والأمني اضطر المخابرات "الإسرائيلية" للدخول في صراع عقولٍ وأدمغة ما زالت وتيرته تتصاعد يوما بعد آخر.

فشلت المخابرات "الإسرائيلية" عام 2007 في تقدير حجم القوة العسكرية لحماس، ودفعت باتجاه دعم المليشيات التي شكلها محمد دحلان (فرق الموت) عسكريا وماديا، وصرح أكثر من مسؤول "إسرائيلي" حينها بأن: حماس ستخسر معركة غزة، إلا أن الواقع أوضح خطأ تلك التقديرات. 

وفي خواتيم العام 2008 نجح الجيش "الإسرائيلي" حينها في توجيه ضربة شديدة ومفاجئةٍ للداخلِ الغزي، وقامت مخابراته بحياكة سيناريو الرخاء القادم لغزة واستبعاد الحرب القريبة، الأمر الذي لم يكن، إلا أن صمود غزة وعضها على الجراح يومها أفشل المخطط وانسحب أولمرت والصواريخ تنهالُ من فوق رأسه!

وفي الحرب الأخيرة على غزة صيف عام 2014، ظهرت البصمات الإستخبارية في عدة مواطن كان أبرزها إنزال البحرية "الإسرائيلية" في منطقة السودانية شمال غرب غزة، حيث ذكر القسام في بيانه العسكري صراحة عن علم استخباراته العسكرية المسبق بنية البحرية "الإسرائيلية" بعمل إنزال بحري في ذات المكان بتاريخ 13 تموز/ يوليو، الأمر الذي ساعدها على التعامل مع عملية للإنزال بأربعة كمائن أفشلته واضطرت القوات "الإسرائيلية" للانسحاب الفوري تحت غطاء الطيران.

لقد كان من المفاجئ أن تقوم المقاومة بقنص جندي "إسرائيلي" على ظهر دبابته إبان العمليات البرية، ومن ثم تنشر اسمه ورتبته العسكرية وحالته الصحية، كما حدث في حالة الرقيب (ديمتري لافيناس-قائد سرية في سلاح المدرعات) وقتله على إثرها في 22 تموز/ يوليو.

إلا أن كشف القسام بعد انتهاء الحرب عن اصدارات مرئية لعمليات اقتحام موقعي زيكيم البحري وأبو مطيبق الحدودي، تُظهر بلا شك تَمكن القسام من اختراق نظام التحكم والمراقبة "الإسرائيلي".

اليوم، ومنذ انتهاء الحرب الأخيرة على قطاع غزة، تدور رحى حرب معلوماتٍ وأدمغةٍ على مستويات شتى، في الضفة التي تشهد عمليات بطولية متكررة يقوم بها شبان غير مؤطرين، وخلايا فصائلية عدة، وتفتح كل عملية منها -خصوصا التي يتم الإنسحاب بعدها- بابا واسعا من التتبع والمراقبة، كما حدث في حالة الشهيد نشأت ملحم، الذي أودى به خطأ متمثل باستخدام هاتفٍ نقال جرى تتبعه على إثره!

وفي قطاع غزة الذي ما زالت مقاومته ترهق حسابات المخابرات "الإسرائيلية"، بداية بتعبيد شارع رائد العطار كما اسماه القسام لرصد الحدود ومتابعتها، وبمئات عمليات اختبار الصواريخ المستمرة نحو البحر، والتي تساهم في زيادة حالة الغموض حول المدى الذي وصلت له صواريخ المقاومة، وبنشر القسام لبالونات (هيليوم) لمراقبة الحدود وجمع المعلومات، وبتصاعد أساليب الأبتزاز "الإسرائيلي" لمكونات الشعب في غزة، الرامية لتجنيد مزيد من العملاء، والتي يرد عليها جهاز الأمن الداخلي الفلسطيني في غزة بالإعلان عن تنفيذ أحكام إعدام بحق متخابرين مع الاحتلال بعد أحكام قضائية.

والسؤال هو، إلى أي مدى يستطيع العقل الفلسطيني المقاوم مواجهة التكنولوجيا المعلوماتية "الإسرائيلية" المتقدمة، خصوصا مع تغول وسائل التواصل الإجتماعي وصعوبة ضبطها وتأثيرها السلبي الكبير على المقاومة ووسائلها؟!

وهل يتمتع المجتمع الفلسطيني بنفس مستوى المقاومة من إدراكٍ لحساسية وأهمية المعلومة، أم أنها ثقافة تحتاج إلى مزيد من النشر والتوعية إلى هذه اللحظة؟! 

أدركَ سيدنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- أهمية المعلومة، فما خرج لغزوةٍ إلا وعرض بالخروج لأخرى، وتدخل الوحي حينا لئلا يفشى سر النبي من قبل حاطب يوم الفتح، وأرسى حاجة مهمة لأي قائد حين قال يوم الأحزاب: "من يأتينا بخبر القوم؟"

في بقعة أخرى من واقعنا، خارجة عن السياق، يصرح الجنرال "الإسرائيلي" جادي شماني، أن السلطة الفلسطينية تزودنا بالمعلومات الاستخبارية اللازمة لمواجهة عمليات المقاومة وخلاياها!
التعليقات (1)
أسمى
الإثنين، 18-01-2016 06:33 م
مقال جيد ، بداية موفقة :)