مقالات مختارة

إسرائيل: العدو من الداخل

ميرون رابوبورت
1300x600
1300x600
تأتي حملة التشهير التي تشن على منظمات حقوق الإنسان، في وقت بات فيه اليسار الناشط في إسرائيل أقل استعدادا للاعتذار أو التراجع
 
حتى الأعضاء المخضرمون من معسكر اليسار الإسرائيلي، لا يتذكرون متى كانت المرة الأخيرة التي تعرضوا فيها لمثل هذا الهجوم المنظم والمطول والشرس الذي يواجهونه منذ أسابيع قليلة. مضت أوقات كان فيها اليسار الإسرائيلي الراديكالي أصغر حجما وأقل عددا، ولكن ندر من قبل أن تعرض لمثل هذه الحملة الرسمية تقريبا والمنظمة لنزع الشرعية عنه.
 
بدأ ذلك بحملة "من الأدلة المزروعة" شنتها منظمة "إم تيرزو" اليمينية المتطرفة التي وزعت لقطات فيديو لنشطاء بارزين في منظمات حقوق إنسان إسرائيلية، تصورهم على أنهم عملاء "للفلسطينيين الإرهابيين" وممولون من حكومات أجنبية.
 
تصادفت حملة التشهير السافرة تلك مع مشروع قانون يدفع باتجاه تبنيه وزير العدل أيليت شيكيد، يطالب منظمات حقوق الإنسان التي تتلقى أكثر من نصف تمويلها من حكومات أجنبية، بإظهار بطاقات هوية خاصة عندما يتعاملون مع المؤسسات الإسرائيلية الرسمية.
 
يمكن اعتبار قضية عزرا ناوي، الناشط الإسرائيلي في مجال حقوق الإنسان – الذي كرس نفسه لحماية الفلسطينيين، الذين يعيشون في منطقة شبه صحراوية جنوب مدينة الخليل، والمهددين بسبب عمليات توسيع المستوطنات الإسرائيلية المجاورة، خطوة أخرى في الاتجاه نفسه.
 
اعتقل ناوي في مطلع الأسبوع الماضي بعد أن زعم برنامج تحقيقات تلفزيوني إسرائيلي مرموق بأنه تسبب في موت سماسرة أراض فلسطينيين، كانوا يحاولون شراء أرض من ملاكها الفلسطينيين لبيعها لمستعمرين إسرائيليين. يتهم عزرا ناوي بأنه سلم معلومات تكشف هويات هؤلاء السماسرة إلى السلطة الفلسطينية، حيث الإعدام هو العقوبة التي يستحقها من يقوم بمثل هذا العمل.
 
بالرغم من أنه لم يجر إعدام أي فلسطيني من قبل السلطة الفلسطينية منذ ما يزيد عن عشرة أعوام بتهم لها علاقة بشراء الأراضي أو بغير ذلك من التهم، إلا أن ناوي تعرض للاعتقال بتهمة "الاجتماع بعميل أجنبي" كما حرم من التواصل مع محاميه لمدة أسبوع. تبدو هذه التهم سخيفة بالنظر إلى أن أجهزة الأمن الإسرائيلية نفسها تسلم السلطة الفلسطينية بشكل منتظم أسماء فلسطينيين يشتبه بانتمائهم إلى حماس، أو يشتبه باشتراكهم في التخطيط لتنفيذ هجمات ضد أهداف إسرائيلية.
 
وكما لو أن ما جرى لعزرا ناوي غير كاف، فقد تقدم خمسة نواب من الائتلاف هذا الأسبوع بمشروع قانون يقترح حظر "كسر الصمت"، وهي المنظمة التي تجمع وتنشر شهادات للجنود الإسرائيليين تتعلق بتجاربهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة. إذا ما أيدت الحكومة هذا الاقتراح، فالأغلب أنه سيحظى بموافقة أغلبية أعضاء البرلمان عليه وسيصبح تشريعا.
 
ويتكثف القمع
 
إذا ما تم حظر "كسر الصمت" فسيكون ذلك هو الحظر الثاني بعد حظر الجناح الشمالي للحركة الإسلامية في إسرائيل قبل شهرين تقريبا. لم يكن عجبا في مثل هذه الأجواء أن تعرب معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية عن قناعتها بأن الحريق الذي التهم مكاتب بيتسيليم، وهي منظمة حقوق إنسان أخرى، كان متعمدا وعن سبق إصرار وترصد، ومما يؤكد ذلك أن الهواء كان مشبعا برائحة الوقود الذي استخدم لإشعال النار.
 
ويبقى السؤال المطروح هو: لماذا يأتي هذا الهجوم في هذا الوقت بالذات، حيث يعاني اليسار الإسرائيلي من ضعف شديد، وفي الوقت الذي لا يبدو قادرا فيه على تشكيل أي تهديد جدي لحكومة اليمين المتطرف، التي يترأسها بنيامين نتنياهو؟
 
لقد بات يسار الوسط في إسرائيل ضعيفا ليس فقط من حيث عدد المقاعد التي يحتلها داخل البرلمان، بل يعاني أيضا من انقسامات داخلية، حيث يعجز المعسكر الصهيوني وكذلك حزب ييش آتيد، الذي يترأسه يائير لابيد عن تشكيل أي جبهة موحدة ضد الموجة المناهضة للديمقراطية. بل تجد هذين المعسكرين في بعض الأوقات غارقين في التنافس فيما بينهما على توجيه الانتقاد لهذه المنظمات نغسها، التي تتعرض للهجوم.
 
في هذه الأثناء تبدو الساحة الدولية مهيأة لصالح إسرائيل، فالعالم العربي منقسم بحدة تجاه سوريا وتجاه تنظيم الدولة الإسلامية، وكذلك تجاه العديد من القضايا الأخرى. ولم تزل الأحزاب السياسية والتنظيمات الفلسطينية تخفق في إقناع شعبها بالانضمام إليها والالتفاف حولها، ولا توجد لدى أوروبا ولا الولايات المتحدة شهية لتوريط نفسيهما في المنطقة. ولا أدل على ذلك من أن الرئيس باراك أوباما لم يأت على ذكر إسرائيل ولا الفلسطينيين مرة واحدة في خطاب "حال الاتحاد"، الذي ألقاه مؤخرا. وأما عملية السلام، فهي تقريبا ميتة، ولا تتعرض إسرائيل هذه الأيام لأي ضغوط حقيقية من أجل إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية.
 
بعد مرور عشرين عاما على انتخابه رئيسا للوزراء للمرة الأولى، تمكن نتنياهو من "تعليم" المجتمع اليهودي الإسرائيلي كيف يكون أقل تسامحا وأكثر تركيزا على الذات، وأكثر قومية وشوفينية. فعلى سبيل المثال، كثيرا ما ينظر إلى العنف الذي يمارسه الفلسطينيون خارج سياق الاحتلال، ويعتبر جزءا من الحرب الأبدية التي يسعى خلالها غير اليهود إلى قتل اليهود، فقط لمجرد أنهم يهود.
 
يرى السياسيون من الأطياف السياسية كافة، أن الجمهور ازداد ميلا نحو اليمين، ولذلك، وانطلاقا من مقولة "أشبع الوحش"، ذهبوا يتنافسون فيما بينهم على الظهور بمظهر الولاء التام "للقضية الإسرائيلية"، وهذا الموقف يتطلب منهم البحث عن عدو يقتاتون عليه.
 
لكن، ما من شك في أن ذلك يزداد صعوبة أيضا. فبعد أن أبرمت صفقتها مع الغرب لم تعد إيران هدفا بارزا كما كانت من قبل. وبات هؤلاء السياسيون يشعرون بالعجز عن الإتيان بفعل يذكر بسبب الطبيعة "الفردية" للموجة الحالية من العنف الفلسطيني، فليس أمامهم عدو فلسطيني واضح الملامح يمكن أن يوجهوا إليه ضرباتهم. استلمت إسرائيل هذا الأسبوع من ألمانيا غواصة من أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا، ولكن ما عسى مثل هذا السلاح أن يفعل في مواجهة فتاة فلسطينية عمرها ستة عشر عاما تشهر مقصا في وجوه الإسرائيليين داخل شوارع القدس؟
 
ربما أخفقت حركة بي دي إس (حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات) الموجهة ضد إسرائيل في إنجاز نتائج ملموسة، ولكن يشعر الناس رغما عن ذلك بآثارها، وها هو الاتحاد الأوروبي ينظر في إصدار قرار يميز بشكل أكثر دقة وأكثر وضوحا التمييز ما بين المنتجات التي تصنع في إسرائيل، والتي تصنع في المناطق المحتلة.
 
لا تتردد السويد في انتقاد ما يزعم من قتل للفلسطينيين خارج القانون على أيدي قوات الأمن الإسرائيلية، ورفضت البرازيل اعتماد السفير الإسرائيلي الجديد لديها بسبب دوره البارز في حركة الاستيطان.
 
أهداف سهلة
 
من جهة، تشعر إسرائيل بأنها أكثر عزلة، ومن جهة أخرى، تشعر بأنها أقل أمنا. وفي هذه الحالة تصبح منظمات حقوق الإنسان أهدافا سهلة. نشاطاتها نفسها باتت تعتبر خارجة عن القانون والشرعية؛ لأنها ترفض التسليم بفرضية أن جميع الفلسطينيين بطبيعتهم أعداء. كما أن المعلومات التي تزود بها المؤسسات الدولية ووسائل الإعلام حول أعمال إسرائيل في المناطق المحتلة، تعتبر بمنزلة تزويد أولئك الذين يتمنون فرض مزيد من العزلة على إسرائيل بالذخيرة.
 
العنصر الآخر الذي يضيف إلى غضب الجناح اليميني ويفاقم من إحباطه، هو حقيقة أن اليسار الإسرائيلي قد يكون فعلا أصغر حجما من ذي قبل، إلا أن جناحه المتطرف المتمثل بمنظمات حقوق الإنسان هذه، أصبح أكثر عنادا وتصلبا.
 
لا يشعر الجيل الجديد بأنه ملزم بالاعتذار أو الانسحاب، كما كان في ذات مرة حال اليسار الإسرائيلي "القديم"، بل يستمر في تحدي التوجه السائد في إسرائيل. لقد ارتفع عدد المتطوعين في منظمة "كسر الصمت" بشكل كبير، منذ أن بدأت الحملة الإعلامية ضدها.
 
يبدو أن السياسيين الإسرائيليين يظنون أن كل هجوم يشنونه على هذه المنظمات سيكسبهم نقاطا في التنافس الدائر فيما بينهم. ورغم أن رئيس الوزراء نتنياهو يبدو أنه ناء بنفسه عن ذلك، إلا أن وزير التعليم نافتالي بينيت، زعيم حزب البيت اليهودي، لا يفوت فرصة لتوجيه اللكمات. أما أفيغدور ليبرمان، وزير الخارجية السابق الذي يجلس في صفوف المعارضة الآن، فقد قال نهاية هذا الأسبوع إن "كسر الصمت" و "بيتسيليم" كلاهما "خونة بكل وضوح"، مقارنا إياهما باليهوديين اللذين أدينا بالتجسس.
 
وهذا الأسبوع، قال عضو قيادي في حزب العمل - طلب أن تظل هويته طي الكتمان – إن هذا البحث عن عدو داخلي، هذه الحاجة الملحة والدائمة "لإشباع الوحش"، تشبه من وجهة نظره حالة جمهورية ويمر في ألمانيا قبل صعود النظام النازي. قد يكون في ذلك مبالغة، ولكن هذه النزعة نحو التظلم موجودة.
 
رغم كل عيوبها، تمكنت إسرائيل من الحفاظ على النظام الديمقراطي كل هذه السنين، على الأقل بالنسبة لمواطنيها اليهود. فهل هي متجهة الآن نحو فقدان عناصر كبيرة من ديمقراطيتها؟ من الواضح أن هذا الخيار بات مطروحا على الطاولة، وأنه أصبح يلقى دعما كبيرا في أوساط الجمهور الإسرائيلي.
 
والسؤال هو: ما إذا كانت الحكومة الحالية لديها "الشجاعة" لأن تخالف هذا التقليد الديمقراطي وتخرج عليه، وما إذا كان اليسار الراديكالي الرافض للاعتذار لديه القدرة على إعادة تنظيم صفوفه والمقاومة. فيما لو وقع حظر منظمة "كسر الصمت"، فهل أن ذلك سيشكل نقطة اللا عودة، ومؤشرا على أن إسرائيل قررت تغيير المسار؟

(ميدل إيست آي)
0
التعليقات (0)