مقالات مختارة

وجهة العالم الإسلامي والجزائر .. أي مصير؟

سليم قلالة
1300x600
1300x600
في سنة 1959 كتب المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله مؤلفه الشهير "وجهة العالم الإسلامي" مُحدِّدا معالم مستقبل الأمة في تلك الفترة ومن بينها الكفاح الجزائري الذي كان في قمة عنفوانه ضد المُستعمِر.. ولمَّا كان العالم الإسلامي والجزائر اليوم على أبواب وجهة جديدة رأيت أنه من الضروري القيام بقراءة أخرى لمستقبلنا على ضوء ما حصل من تطورات بعد أكثر من نصف قرن من محاولة الإجابة عن ذلك السؤال الذي طرحه مالك بن نبي وأكثر من مفكر وسياسي بصيغ مختلفة: أية وجهة للعالم الإسلامي وأي مصير للجزائر؟

يَضرِب الإرهاب اليوم بقوة في بروكسل، فيهتز العالم وتتناقل أخباره أن من قام بالعملية هما أخوان من أصول عربية او إسلامية بكل تأكيد... وضَرب الإرهاب باريس بالأمس، وقبلها مدريد ونيويورك وموسكو وغيرها من المدن والعواصم، وكان الفاعل باستمرار مسلما أو ينتمي للعالم الإسلامي! هكذا يريد إعلام  القرن الحادي والعشرين أن يُبيِّن لنا أن مَصدَرَ آلامه وأحزانه هو هذا العالم الإسلامي حاضن الإرهاب، في حين أن "الغرب" هو حاضن الخير والرّفاه والتقدم والإنسانية فيه .. هو الضحية وليس الجلاد!

لِنعد بالتاريخ إلى الوراء قليلا ونحكم: ما الذي نراه عندما كتب مالك بن نبي كتابه "وجهة العالم الإسلامي" في منتصف القرن الماضي؟ إننا لن نجد من هذا العالم الإسلامي سوى بُقَع قليلة غير مُستعمَرة، ليس بإرادتها إنما بمحض منطق تطور الأحداث والتاريخ، كما اليمن أو الحجاز، أما البقية منه فكانت تئن تحت وطأة أشكال متعددة من الاستعمار، واحدٌ في جوهره مُتعدد في أساليبه وتسمياته، فهذا استيطان وذاك حماية، انتداب، أو وصاية... وهذا فرنسي وذاك إنجليزي أو ألماني أو إيطالي أو هولندي... الولايات المتحدة لم تكن بعد قوة عالمية ولا كانت تتحكم في العالم... 

في هذه الفترة كان الكفاح المسلح الذي تخوضه الشعوب المستعمرة هو الذي يُسمَّى إرهابا، مثلما هو الشأن في الجزائر عندما كانت الدعاية الاستعمارية تنعتُ شهداءنا بالإرهابيين أو الخارجين عن القانون أو "الفلاّقة"... لم تكن التسميات تختلف آنذاك، لأن الغاية كانت واحدة هي تشويه  هذا الإنسان الثائر ضد الظلم ووضعه في خانة دون الإنسان الأوروبي الأبيض المستعمر والمتحضر باستمرار!

ولم تكن الإجابة آنذاك عن السؤال الرئيس: أي وجهة للعالم الإسلامي تخرج عن كونه مضطرا للخيار بين التحرير أو البقاء ضمن العبودية الأبدية، بين أن يُغيِّر ما بنفسه ويَنفض عنه القابلية للاستعمار أو يبقى ضمن حالته البائسة إلى الأبد. وذات الشيء بالنسبة للإجابة عن السؤال الآخر: أي وجهة للجزائر؟ كانت عناصر الرؤية واضحة وإشاراتها مفهومة للجميع لخّصها لنا مالك بن نبي في مؤلفه المذكور أعلاه، في عناصر ثلاثة:

 تغيير إنسان عصر ما بعد الموحدين (مفهوم جديد للإنسان)

العودة إلى مرحلة ما قبل صفين (مفهوم جديد للوقت)

النظر لمشكلات العالم الإسلامي كوحدة لا فرق فيها بين الجزائر وجاوة (مفهوم جديد للتراب)

في العنصر الأول، كان مالك بن نبي واضحا في توصيفه لإنسان مرحلة ما بعد الموحدين، أي ما بعد سنة 1269م، حيث بدأ عصر انحطاط المسلمين وانطلقت أوروبا في نهضتها. إنه يحمل بداخله القابلية للاستعمار، فلا قيمة اجتماعية للوقت لديه (ساعات تمر وكفى)، ولا قدرة على تثمين الثروة (التراب استهلاك وليس إنتاجا)، عاجز على تقديم البديل، لا يتميز بالفعالية، يميل إلى حب الجدل والتفخيم (فخامة الحاكم)، منتكس باستمرار للوراء... هذا الإنسان هو الذي ينبغي أن يتغير إذا أردنا للعالم الإسلامي أن يأخذ وجهته الصحيحة. 

أما في العنصر الثاني فقد دعا إلى تصحيح الخلل الذي حدث بعد معركة صفين إذا أردنا لهذا العالم أن يُصحح وجهته أيضا، إذ بعد هذه المعركة (التي وقعت سنة 38هـ) حلت "السلطة العصبية محل الحكومة الديمقراطية الخليفية" وخلق(الانقلاب) الذي نتج عنها "هوة بين الدولة والضمير الشعبي" (مالك ص 35)، مما أدى إلى أشكال عديدة من  الانفصال احتوى بداخله جميع أنواع التمزق، وأنتج جميع التناقضات السياسية التي عرفها العالم الإسلامي طوال تاريخه. ولذلك ينبغي لهذا أن يتغير، أي أن يتم تصحيح المسار التاريخي للأمة من خلال وعي مراحل تاريخها الثلاث: ما قبل صفين النموذجية ـ وما بعد صفين التي عرفت أشكالا من التطور الحضاري (في العلوم والفنون) من غير أن تكون الأنموذج ـ  ومرحلة ما بعد الموحدين التي تحول فيها إلى الانحطاط ولم يَعُد قادرا على الابتكار.

 ليصل أخيرا في العنصر الثالث إلى الدعوة إلى ضرورة النظر إلى مشكلة العالم الإسلامي ـ ومن بينها ـ المسألة الجزائرية آنذاك، ضمن وحدة هذا العالم الإقليمية وليس ضمن نظرة تجزيئية تفصل بين المشكلات التي يعرفها مشرقا أو مغربا، باعتبار النظرة الذرية (من الذرة) أو ما يُسمّيه (atomisme) لن تُمكِّن من معرفة المصير الكلي للأمة ومن ثم من مُعالجة أية مشكلة من مشكلاتها.

فهل بإمكاننا أن ننظر لأنفسنا اليوم على ضوء خلفية ما رآه مالك بن نبي؟ ما الذي تغيّر حولنا وفي أنفسنا ليَحكُم مصيرنا؟

بلا شك ساحة العالم الإسلامي اليوم تموج بمظاهر مختلفة عن تلك التي كانت في منتصف القرن الماضي:

ـ صِفات إنسان ما بعد الموحدين مازالت لا تفارقه حينا إلا وتتم إعادتها بعد حين بوسائل قليلا ما انتبهنا لها عبر البرامج التعليمية وشبكات التواصل الاجتماعي والتأثيرات المتعددة لتكنولوجيات وسائل الإعلام والاتصال.. (إلغاء قيمة الوقت، الإغراق في الاستهلاك، الانبهار بالآخر والقابلية للخضوع له والفرار إليه... الخ). 

ـ ويجري حثيثا منع أية تجربة تريد العودة إلى أنظمة حكم قائمة على مبادئ مرحلة ما قبل صفين 'الديمقراطية الخليفية" واستبدالها بتجارب تكرس لطبيعة الحكم الشرقي الاستبدادي في أسوأ مظاهره (الانقلاب على الديمقراطيات الناشئة، منع أي تحول حقيقي باتجاه الحكم الشعبي المنتخب... الخ).

ـ وكلما اتجهت بلاد المسلمين نحو السلم إلا وتمت تذكية الاقتتال بها من خلال ما يُعرف بالجماعات الإرهابية التي تُصبح في ذات الوقت ذريعة للتدخل الأجنبي بزعم محاربتها، القاعدة، داعش بفروعهما... الخ).  

ـ ولا يكاد العالم يسكت عن اتهام المسلمين بأنهم خلف الإرهاب الدولي الذي ضرب باريس لتحدث تفجيرات أخرى ببروكسل أو نيروبي تذكرهم بأنهم خلف الشرور وهكذا باستمرار...

ـ ولا يسلم بلد ـ الجزائر مثلا ـ من الاضطرابات أو الصراعات الداخلية حتى تُقرع طبول أخرى لها ويجري التبشير بثالثة قادمة أكثر فتنة ودموية من خلال مناورات وحدهم يُحسنون القيام بها.

وهكذا تُصبح وجهتنا رهينة خلفيات تاريخية مازلنا لم نَتمَكن من محو آثارها السالبة، وعوامل خارجية لم نستوعب بعد أبعادها، ذلك أن الرجل الأبيض لم يُغيِّر من طبيعته، بل غير فقط من مظهره وأساليبه. لقد استبدل استخدامه للفرق الدينية الضالة في القرنين التاسع عشر والعشرين باستخدامه  للقاعدة وداعش وغيرهما في القرن الحادي والعشرين، واستبدل حججه الواهية بتمدين العالم الإسلامي قبيل الحقبة الاستعمارية بنشر الديمقراطية اليوم، ومازال يعمل لِيتَحول عنصر الإيمان لدينا، الموقظ للحركة والفعل إلى إيمان رهبانٍ في صوامعهم منفصلين على الواقع باسم فصل الدين عن الدولة وعن السياسة تحت شعار الدولة المدنية. وآخرها أن نُصبح مَصدَر الإرهاب والعنف في العالم، لا يستقيم وصف مشتبه بهم بأنهم إرهابيون إلا إذا كانوا يحملون أسماء مسلمين.. 

تلك هي الوجهة التي أرادوها للعالم الإسلامي في القرنين التاسع عشر والعشرين والجزائر من ضمنها، وهي ذاتها  التي يريدونها لنا اليوم.. فهلاّ صنعنا نحن الوجهة التي نريد؟ 

إنه يحمل بداخله القابلية للاستعمار، فلا قيمة اجتماعية للوقت لديه ولا قدرة على تثمين الثروة، عاجز على تقديم البديل، لا يتميَّز بالفعالية، يميل إلى حب الجدل والتفخيم، منتكس باستمرار للوراء.. هذا الإنسان هو الذي ينبغي أن يتغير إذا أردنا للعالم الإسلامي أن يأخذ وجهته الصحيحة.

عن صحيفة الشروق الجزائرية
0
التعليقات (0)