قضايا وآراء

فلسطين وأخواتها بين نوائب الحق ونوائب الباطل

محمد حسني عودة
1300x600
1300x600
كنت في مخاض كتابتي لهذه المقالة وقد تراءى لي المشهد في عالمنا الذي نعيش وأتذكر فلسطين، ومضي ثلاثة عشر عاما على احتلال العراق، وإهلاك الحرث والنسل والأرض في سوريا، وتبعات ذهاب الشرعية في مصر على الفرد والمجتمع والبلد والأمة جمعاء، وتحالف الظلم الحوثي مع فلول رئيس مخلوع والطائفية في زمرتهم، فلم أشأ إلا أن أردد مع نفسي هم جميع من في مظلوميتهم "فلسطين وأخواتها". وقد امتد ذلك المشهد ليأخذ في طياته فضيحة وثائق بنما، ومنظمة المؤتمر الإسلامي في انتهاء أعمال دورتها الثالثة عشرة، وأبت فلسطين إلا أن تطفو وتعلو في المشهد بكل حرف من حروفها، فكلما يمر ذكر كلمة فلسطين فيسمعها أولو الألباب والنهى، إلا تذكرهم بأخواتها في الماضي وفي الحاضر وما يتماثل  بعضا أو كلا، ليتراءى لنا مشهد الماضي واضحا جليا، وكأنه صورة تماثلية في رسمه للحاضر والواقع الذي نعيش.
 
فلسطين وأخواتها لها خاصيتها في رفعتها ورقيها لمن يعلو بهم ويعرف قدرهم، وهم في المنعطف نفسه عكسيا يكسرون شوكة ورفعة وكبرياء من يجرؤ على أن يسلب فلسطين وأخواتها حقوقهم التي هي الإنسانية في صلب متطلباتها. وإن المرء كلما تقدم في عمره يرى الأحداث في تمحورها لا تراوح بعيدا عن نوائب الباطل، في جاهلية ربما يصعب علينا تشخيصها بدقة، إذا ما قورنت بجاهلية العرب قبل دخولهم في الإسلام كافة. كلنا يتذكر حرب الفجار، وحلف الفضول، ومسألة التحكيم في أمر وضع الحجر الأسود إبان تجديد بناء الكعبة المشرفة من جهة، ومن جهة أخرى نأخذ الدروس والعبر في كيفية تعايش رسول الله صلى الله عليه وسلم مع التجارب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية لأهل بلده - قريش.  فلم يكن بأبي وأمي هو وقد بعث رسولا للهدى ليقبل الظلم أبدا ولا سلب الحقوق ولا أن يترك الظالم يرتع ويتربرب،  بل كان ناصرا للمظلوم متمثلا في شهادته لحلف الفضول، وأيضا فاعلا في حفظ الأوطان كما فعل وهو يساعد عمومته في النبل وصد النبل عنهم في حرب الفجار، وأخرى في رجاحة التحكيم في مسألة وضع الحجر الأسود والذي في جوهره العدل والمساواة.
 
تلك كانت قريش في جاهليتها قبل الإسلام، قريش التي كانت تئد المولودة كونها أنثى، والتي كانت تنازع توريث الأنثى حقوقها وكانت تعاقر الخمر وغيرها، ولكنها من جهة أخرى كان عندها من القيم والأخلاقيات ما عززه رسول الهدى  صلى الله عليه وسلم، بل شدد عليه وفيما نستشهد به هنا في قوله عن حلف الفضول فيما رواه الإمام أحمد: "ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت". ونستشهد أيضا بما وصفته به زوجه خديجة رضي الله عنها عندما رجع عليها في حالته التي كان عليها عند نزول الوحي عليه أول مرة فقالت له قولتها المشهورة التي نأخذ منها: "وتعين على نوائب الحق"، كما في صحيح مسلم.
 
بالأمس واليوم سمعنا ونسمع عمن أخذوا فلسطين وأخواتها على أنهن من نوائب الحق، فبذلوا الغالي والنفيس فيهن نصرة للحق ونصرة للمظلوم على الظالم، ومن جهة أخرى نرى من شهد على نوائب الباطل في حق فلسطين وأخواتها وفي العصر الذي نعيش ومنذ عشرينيات القرن العشرين، عندما كانت تزرع بذور سلب فلسطين من أهلها وقلب أمتها فتداعت حروب وثورات متتالية - ليست مناط مقالتنا هذه لنلخصها- في مشهد متجدد لمن هم مع نوائب الحق ولمن هم في نوائب الباطل ومعه يُسيسون ويُساسون من جهة أخرى. ولقد ازدادوا في طغيانهم إزهاقا للأرواح والمقدسات والممتلكات والبنى التحتية، بل قد أشبعوهم حصارا برا وبحرا وجوا ونسوا أو تناسوا أو ربما كليهما أن قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق، ولن يستطيعوا أبدا - لأن الله يرزق من يشاء بغير حساب كما أجابت مريم عليها السلام نبي الله زكريا عليه السلام في محرابها.
 
ويتداعى المشهد لأخوات فلسطين …
 
تآمروا على العراق من كل صوب وحدب ومزقوا وحدته وحضارته، بل الأدهى والأمر أنهم أزهقوا الأرواح البريئة وانتهكوا الأعراض والحرمات بأبشع أوجهها - وعلى سبيل المثال لا الحصر - ذلك السجن اللعين "أبو غريب" الذي تشهد عليهم ذرات ترابه، وأصوات الثكالى،  والمعذبين، والمغتصبين  -في جرائم وحشية.. جرائم غرة القرن الواحد والعشرين-. اليوم، وبعد مضي  ثلاثة عشر عاما على احتلال العراق وتمزيقه طائفيا في مخطط يمزق تبعات سايكس بيكو القديمة، نواجه ربيعا جديدا يؤسس ربما "لربيع بيكو"، وليس ربيع الأمة في عزتها وانتفاضتها للحق ونصرة المظلوم مع نوائب.
 
وتتداعى نوائب الباطل في غيها، فتشهد الانقلاب على نوائب الحق في مصر الحبيبة، وتتخللها مشاهد متعاظمة في غيها من إزهاق للإنسان وكل حقوقه، بل تمزيق وحدة وكيان سوريا والتعاضد الطائفي ضدها - ذلك التعاضد الذي فتت الأوطان من جهة، ومن جهة أخرى سرطان وحدة الأمة متكاثرا دون انضباط منطقي ولا عرقي ليمتد ويبدد وحدة بلد الحكمة اليمانية، وكأن مشهد من اتخذ إلهه هواه يرتسم  فيَضِل ويُضِل.
 
وتطالعنا الأيام القليلة الماضية بوثائق بنما التي لم نعرف عنها إلا القليل القليل، متوجسين من سر توقيتها، وفي الوقت نفسه لسنا متفاجئين كثيرا من الفساد الذي عشعش وتعنكب في فرعونيته على مختلف بقاع المعمورة، ليعضد أن الفساد هو واحد في أصله ونوائب الباطل في صلبه، فأي جاهلية نعيشها اليوم؟ شعوب أُفقرت وسُرقت ثرواتها بأيدي حفنة هنا وهناك، وتهرب من الضرائب لقادة دول ومسؤولين حكوميين ومشاهير ونجوم سينما ولاعبي رياضة محترفين - ذلك في تقديرنا ربما من أبسطها-، قبل أن يقشعر بدنك وأنت تسمع ما قاله أنجل غوريا، المحلل والأمين العام لمنظمة OECD“". إن بعض الوثائق التي تم تسريبها من شركة المحاماة موساك فونسيكا فيما بات يعرف إعلاميا بـ"وثائق بنما”، تظهر على حد تعبيره الحجم الحقيقي لمدى استغلال السلطة وتتجاوز ذلك أيضا، وذلك نقلا عن موقع CNN العربي.
 
أي سلطة يتكلمون عنها، وأي باطل هم في مجلس نوابه؟ إنه الإفساد في الأرض ..هنا نتذكر قولة موسى عليه السلام عن فعل سحرة فرعون وأتباعه في الظلم والفساد: "فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى? مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ ? إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ? إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ(81)" يونس. ونتذكر أيضا قول رسول الله عليه أطيب الصلاة والتسليم في رواية البخاري: (أيها الناس إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). أي حضارة جاء به محمد صلى الله عبيه وسلم حارسا نائبا للحق، وأي جاهلية نرى وأي نيابة عن الباطل تتمترس من حولنا؟
 
وقد توارت المشاهد بين نوائب الحق ونوائب الباطل تباعا، وقبل يومين شهدنا نتائج انتهاء الدورة الثالثة عشرة لمنظمة المؤتمر الإسلامي في اسطنبول. بالطبع لسنا من مدرسة المتشائمين أو السلبيين، بل نحاول أن نرى الإيجابيات إيجابا، وما يتراءى لنا سلبيا نحاول التريث في فهمه لعلنا تسرعنا في تقديرنا لكنهه. فلا شك أن الوقوف بالكلمة في وجه الظلم والطغيان وتقسيم الأوطان ووحدة كيان الأمة ضد الطائفية المقيتة أمر عظيم وإيجابي نقدره، ولكننا وفي الوقت نفسه نتساءل - في هذا الوقت الحرج العظيم الذي تمر فيه أمتنا ليس فقط في تشتيت كيانها وثرواتها وبناها التحتية، بل في انتزاع حقوق الإنسانية منها، والاعتداء على حرماتها وسلبها مقدساتها وأراضيها، والنيل من كرامتها-  هل الكلمات والدعوات التي سمعناها تلبي مطالب حلف الفضول الذي شهده رسول الهدى عليه الصلاة والسلام؟ ذلك الحلف الذي كان في جاهلية قبل الإسلام، ونتساءل هل شخصنا الجراح وأعلنا تشخيصنا للعامة فقلنا إن احتلال الأرض ونهب حق الإنسانية لمواطنينا هو لب الصراع؟ ولماذا لا نطالب بالتحقيق مع الجناة ومن ينوب عنهم أشخاصا أو دولا - فيمن كانت لهم الأيادي بطريق مباشر أو غير مباشر في إزهاق الأرواح والأموال واحتلال الأوطان؟ ولماذا لا نقوم على تفعيل وتمويل رفع قضايا قانونية دولية أممية ضد هؤلاء لجلبهم للعدالة؟
 
…  بكل تأكيد، فلسطين والعراق وأخواتهم أعزاء عليكم كما هم في قلوبنا وقلوبكم.
 
وكما أن الله عز وجل لم ولن يصلح عمل المفسدين، فإن الذين اتُّبِعُوا سيتبرأون من الذين اتَّبَعُوا مصداقا للأية الكريمة: "إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ? كَذَ?لِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ? وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)" البقرة.
 
إنها فلسطين وأخواتها..  يعلون لمن يعلو بهم ويعرف قدرهم، ويكسرون شوكة ورفعة وكبرياء من يجرؤ على أن يسلبهم حقوقهم.
 
اللهم علمنا ما ينفعنا، واهدنا سبل السلام، اجعلنا من أولي الألباب والنهى.. اللهم آمين.
0
التعليقات (0)