قضايا وآراء

القومية الفرعونية والقومية العربية.. أوجه تشابه واختلاف

محمد حسني عودة
1300x600
1300x600
كلما تذكرت، بل كلما شاهدت الظلم والاستبداد وسلب الحريات والاستخفاف بعقول البشر وعبودية البشر للبشر، كلما تراءى لي مشهد الفرعونية متجسدا في قوميتها. لا شك في أن لكل فرعونية ملأ يفرعنون الفرعون ويزيدون في فرعونيته ، فترى هؤلاء الملأ على صنفين: صنف خارجي يقود ذلك الفرعون لمصالح استراتيجية تخدم مصالح ذلك الصنف، والتي في أعلى سلم أولوياتها جعل ذلك الفرعون يتحرك وفق مصالحها دون تردد ولا تباطؤ، وصنف آخر داخلي- على شاكلة وزراء وجنود فرعون مثل هامان ومن في جوقتهم -هؤلاء من المطبلين والمزمرين والمنتفعين اللاهثين وراء مصالحهم الشخصية، سواء كانت مادية أو منصبية أو وجاهية، أو كل هذه جميعا. ويتعاضد مشهد الفرعونية في تفاعله تكاملا بين ذلك الصنف الدخيل الخارجي، وذاك الصنف المصطف داخليا، والفرعون نفسه وكأنهم شبكة عنكبوتية.
 
وحتى يتعزز مشهد الفرعونية، لا بد من قوم تُستخف عقولهم فيُستعبدون وتُسلب حرياتهم المادية والمعنوية، وهم في الوقت نفسه سمعا وطاعة وحمدا وتبركا بذلك الفرعون، كما يذكرنا المشهد القرآني: (فَاسْتَخَفَّ  قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ? إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) الزخرف)، وأيضا:  (… قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى? وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ(29)  غافر). ولكن كل هذا لا يكفي، فلا بد من بضاعة مزجاة إلى قوم الفرعون تُدفع إليهم ليشتروها بخسا لهم، ويوفوا الكيل. إنها بضاعة القومية الفرعونية، مقابل إيفاء الكيل بالعبودية.
 
وعندما تقرأ الآية القرآنية: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى? وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ? قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) الأعراف)، ترى القومية شاخصة عند ذلك الملأ الداخلي ونرى الإعجاز القرآني في تشخيص داء القومية "قوم فرعون" مقابل "قوم موسى"، وقد شهدنا في آيات أخرى في القرآن  الكريم، كيف كان فرعون هو من يحفز قومه بالقومية. ولكن بعد إيمان سحرة فرعون برب موسى وهارون، أصبح الملأ الداخلي لفرعون في خوف وارتعاد من فقدان مصالحهم، ومن ثم أخذوا يحشدون في فرعون نفسه حمية القومية الفرعونية. هنا نسي فرعون أن موسى عليه السلام لم يكن هو من يقف ضده عندما قال فرعون: "وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ"، بل إنها القوه الإلهية التي جعلت من فرعون موسى آية لمن خلفه.  

ولكننا في اجتهادنا، نرى كيف أن من أفسد نداء القومية الفرعونية هم أنفسهم عمالقة سحرة فرعون -الذين أجمعوا كيدهم في تناجيهم يوم الزينة - وهم أعرف الناس بحدود ما يمكن أن يصل إليه السحر في ذلك الوقت. فلما تلقفت ما بيمين موسى ما كانوا يأفكون من حبال وعصي.. عندها أدركوا جميعا حدود إفكهم. فكان أعظم شيء فعلوه ليس لأنفسهم فقط، بل لمن خلفهم إلى يوم الدين أن تبرأوا من فرعون وعمله، وأعلنوا إيمانهم برب موسى وهارون فهزوا فرعون في عظمة كيانه عندما قالوا له: "فاقض ما أنت قاض؟".  
 
أيضا، يذكرنا القرآن الكريم في سورة البقرة بمشهد تبرأ الذين اتُّبِعُوا من الذين اتَّبَعُوا يوم القيامة، وهنا نرى مشهدا دنيويا عظيما كيف أن الذين اتَّبَعُوا تبرأوا من الذين اتُّبِعُوا في الحياة الدنيا، قبل أن يروا يوم القيامة مشهد أن القوة لله جميعا، ويروا العذاب وتتقطع بهم الأسباب.
 
ولكن هل تختلف القومية العربية عن القومية الفرعونية؟ وما هي أهم أوجه التشابه بينهما؟
 
إن مفهوم القومية العربية تطور في شمولية أكثر عن القومية الفرعونية، ولكن المشترك بينهما نحكم عليه من نتائج ما آل إليه انبجاس القومية وتفتيت المتبقي من الخلافة العثمانية. فقد بنيت القومية العربية على العصبية العرقية واللغة والتاريخ المشترك والمشاعر والآلام والآمال، ولكنها حيدت الدين تماما.
 
وقبل أن نشرع في تلخيص بعضا من أوجه التشابه والاختلاف، نتساءل: هل يتعارض مفهوم القومية بشكل عام مع الإسلام؟ آية في سورة الحجرات تلخص مفهوم القومية في الإسلام بشكل دقيق، حيث إن الإسلام يتبنى مفهوما شموليا لكيان الإنسان في صلبه المفاضلة على أساس التقوى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى? وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ  لِتَعَارَفُوا ? إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ? إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) الحجرات).
 
تلك القومية التي قال عنها عمر بن الخطاب: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العز بغير ما أعزنا الله أذلنا الله". وقد أقره على ذلك كل العرب الأقحاح في عصره، والعصور الذهبية للأمة الإسلامية التي ما فتئت تنهار بعد دخول القوميات والمذهبيات المفتتة لكيان الأمة. وهل كانت أمة العرب والمسلمين تخاف من عمر؟ كيف يمكن لأمة أن تقر على خطأ لخليفة الأمة؟ وفي أبسط مثال، تلك المرأة التي راجعت عمر وهو على منبره يخطب في قضية المهور، فيرد عليها رضي الله عنه: "أصابت امرأة وأخطأ عمر، لولا امرأة لهلك عمر". أبدا.. فلم يكن عمر ذا فرعونية أبدا!
 
ويصف الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله القومية العربية في موقع صيد الفوائد بأنها: "دعوة جاهلية إلحادية تهدف إلى محاربة الإسلام والتخلص من أحكامه وتعاليمه". ويقول عنها أيضا: "هي دعوة باطلة وخطأ عظيم ومكر ظاهر وجاهلية نكراء وكيد سافر للإسلام وأهله".
 
وكلمات قرأتها للداعية والمفكر والعالم الإسلامي الكبير، الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه "علل وأدوية" في فصل "تذكروا الإسلام يا عرب"، قال فيها: "لقد أفزعني أن هناك نزعة مجنونة تشغل العرب بقضاياهم الخاصة، وتصرفهم عن مشكلات العالم الإسلامي الواسع، وتحبس التفكير والاهتمام فيما يمس المصلحة العربية وحدها. أما وراء ذلك، فالاشتغال به من فضول البحث أو لغو الكلام، وظهرت هذه النزعة دميمة الوجه محقورة الفكر عندما أغارت الشيوعية على أفغانستان المسلمة، فإن دولا وجماعات عربية رأت أن هذه الغارة لا تقلق الضمير!! ولا ينبغي أن تشغلنا عن قضية فلسطين مثلا!! الحق أن هذا الموقف يجعلني أميط اللثام عن خيانات فاجرة اقترفها عرب كثيرون ضد الإسلام وضد المنتمين إليه قي شتى القارات…".
 
حالنا بالأمس واليوم يحاكي بل يشخص ما نحن فيه…
 
الظلم، والاستبداد، وسلب الحريات، والاستخفاف بعقول البشر، وعبودية البشر للبشر في أبشع صورها في أرقى عصور التقنية بشتى أصنافها .. أليس كل أولئك صلب القومية الفرعونية؟
 
ويبقى السؤال الذي يتغنون به ويمتطونه: هل كانت فلسطين هي الشغل الشاغل عند هؤلاء؟ ربما يتراءى لنا المشهد دون تشخيصه يحاكي نفسه بسلام الاستسلام - الذي رأيناه ونراه - مقابل سلام الشجعان الذي تغنينا به بين الفينة والأخرى، حتى وصلنا إلى تطبيع الفن، وامتطينا ثقافة تفاح الضرار، وأدرنا ظهورنا لثقافة التين والزيتون.. فهل نكون في أحسن تقويم؟
 
كلمة قالها لي أستاذي (يساري تخرج في جامعة كامبردج عام 1964) في مرحلة إشرافه على بحثي للدكتوراه: "إن كل قضية في العالم تحاك تخسر من ورائها قضية فلسطين".. كلمات لا أستطيع نسيانها دون التفصيل في مرئياته - التي هي ليست في صلب حديثنا.
 
فلسطين تشتكي وتصرخ منذ أوائل القرن العشرين، وها نحن نعتذر لصلاح الدين الأيوبي؟ نعتذر له، فقد جاءنا زعيم سموه (وليس نحن) "الزعيم الخالد" وآخرون منهم "الملهم"، و"المؤمن"، وغيرهم.
 
زعيم سموه "الزعيم الخالد" أضاع فلسطين في ستة أيام، وألحق بها سيناء وهضبة الجولان، ليتداعى لنا مشهد السقوط تدحرجا إلى يومنا هذا. ونتساءل ولكم مساحة الإجابة: هل يمكن أن ينصر الله زعيما قتل عالما مجاهدا مثل سيد قطب رحمه الله - ولا نزكي على الله أحدا-؟  أثرى الأمة الإسلامية بكتاب ظلال القرآن - كتاب من يقرأه في فهم عميق وجو خال ملازم له، يقشعر له بدنه من العيش حيث ظلال القرآن في أسلوب أدبي فريد من نوعه، كتاب لم يظلمه إلا حسد الحاسدين ومن في جوقتهم.
 
 ونستمر في تساؤلنا: فهل يمكن أن ينصر الله زعيما قتل عالما مجاهدا في 29 أغسطس 1966، بينما حرب الأيام الستة حدثت في 5 يونيو 1967 تحت قيادته؟ وهل ينصر الله الظالم المعتدي الذي يزهق الأرواح؟ وتصل شعوبنا حدا في الاستخفاف بأنفسها، لتخرج جموع تطالبه بالعودة لكرسيه بدل أن تحاسبه؟
   
تغنوا بالقومية العربية تجمعنا ليقولوا تجمعنا "اللغة العربية"، فهل حافظوا على اللغة العربية إلا بجهود فردية أو قُطرية؟ ونكاد نجزم: فلولا القرآن الكريم لأصبحت اللغة العربية في أخمص الأخمصين سلما بين اللغات، في الوقت الذي نسجل للفراعنة حفاظهم على لغتهم وتراثهم.
 
تغنوا بوحدة الآمال والآلام، فهل حققوا لنا هذه في الوقت الذي تنزف فيه الجراح، وأنين الألم في ازدياد؟
 
ولكن الأمة اليوم غير الأمة في الأمس!! فظهر البوعزيزي في تونس ليقول: "لا للظلم ولا للاستبداد". كما تحول سحرة فرعون العمالقة عن قوميتهم الفرعونية وقالوا له: "آمنا برب موسى وهارون"، وقالوا له: "إنا إلى ربنا لمنقلبون"، وقالوا له: "فاقض ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا"، سينبجس الفجر من حلكات الظلام في الوقت الذي تنفجر فيه ينابيع الهدى لتمحو الران من على القلوب التي هي أشد قسوة من الحجارة نفسها.
 
اللهم ربنا فاطر السماوات والأرض، أنت ولينا في الدنيا والآخرة، توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.. اللهم أمين.
التعليقات (0)