قضايا وآراء

البوركيني .. بين ظلم مريديه ورافضيه

محمد حسني عودة
1300x600
1300x600
أمة قد تهاوت بها مستويات الأمور إلى أشد السحق -ربما- فلم يعد عندها أولويات تخطط لها، ولا تنظر إليها بمنظار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل زاد الانحطاط جرفا؛ لتتخلى عن أولويات مسؤولياتها في الحفاظ على كرامة النفس والعرض، لتصبح في تهاويها تدافع عن ارتداء ملابس سباحة للنساء في شواطئ لا يقبل أحد منا فيها أمه أو زوجته أو أخته أو ابنته ترتديه، لتكون بجانب من يتعرون على تلك الشواطئ، فما يقبله هؤلاء لأنفسهم يقبلونه، وكل حر لما اختار أن يسلك في منهجه وطريقة قبوله لحدود الغيرة على العرض والشرف.

لا يكاد يساورني الشك في أن البوركيني ظُلم من قبل رافضيه، في الوقت الذي ظُلم فيه أشد الظلم من قبل مريديه؛ فرافضو البوركيني يتحججون بعلمانية الدولة الفرنسية، وذلك تماما عكس ما ذهبت إليه المحكمة الفرنسية الإدارية العليا بتعليق حظره، مستندة إلى أنه يمثل تهديدا فاضحا وغير قانوني للحريات الأساسية، أي الحرية في التنقل وحرية الضمير والحرية الشخصية، ورافضة ما يدعيه الرافضون للبوركيني حيث ضرورية الحفاظ على علمانية الدولة.

ومما يعد إنصافا من بعض كتاب الصحف البريطانية، مثل ناتالي نوغايريد في صحيفة الغارديان، نورد هنا فقط مقتطفات: "فرنسا لم تجد حتى اليوم طريقا لضمان عدم التمييز ضد مواطنيها المسلمين".. "ولا تتذكر يوما في التاريخ الحديث بدت فيه فرنسا معزولة عن المسرح العالمي بسبب خياراتها السياسية مثلما هي معزولة اليوم".. "استغرابها من أن ينتهي تبني فرنسا المعلن للقيم العالمية إلى هذه النهاية التي وصفتها بـ"المؤلمة".. "دهشتها من إمكانية إجبار النساء هناك على ارتداء أو عدم ارتداء ملابس معينة".. "فرنسا سقطت في حفرة تحتاج الآن للخروج منها".

وللأسف لا تجد ذوي القربى -الذين ضاعت أقلامهم قرابين لفرعون وهامان- يكتبون أقل القليل مما كتبته ناتالي نوغايريد في الغارديان، بل تصاب بالذهول والإعجاب معا من تلك الأقلام الحرة، مثل ناتالي، وما قالته أيضا جانيس تيرنر في صحيفة التايمز، ونختار مقتطفات منه: "إن فرنسا التي شلها الرعب من "الإرهاب" تقوم بإذلال المسلمات وتصنع من الحلفاء المحتملين أعداء مؤكدين".. "إن مطالبة المسلمات بالتعري لا يحررهن، وإن الحجاب وغطاء الرأس عموما أصبح بيانا للهوية بالنسبة للمسلمين في الغرب".

ومع كل الاحترام لجانيس تيرنر، لا نتفق مع كلمتها كمسلمين "أن البوركيني ربما يصبح هو الآخر رمزا لهوية المسلم". فهل وصل بنا المطاف ليصبح البوركيني هوية لنا؟!

ولكن إعجابك بحرية القلم لمن ذاقوا طعم الحرية منذ نشأتهم لا تتفاجأ بقلم مثل جانيس وهو يتحرر في رسم حروفها (وأقصد هنا "يتحرر" إشارة إلى حرية القلم) لتقول جانيس: "إن الأسوأ هو أنه وباستخدام فرنسا للعلمانية مبررا لإذلال النساء فإنها تشوه أيديولوجية تمثل أفضل الآمال بالنسبة للمسلمين الذين يتوقون للحرية، موضحة أن مبادئ العلمانية لا تقسر الطالبات على ارتداء النقاب أو عدم ارتدائه".. بل يتداعى لك مشهد كتابتها لتقول: "على فرنسا أن تفهم أن المسلمات جزء من الحل لمعضلات مجتمعهن الممزق، ويجب أن تكف عن محاربتهن على شواطئها".

بالله عليكم يا قومنا: هل كتبت من عندنا أقلام بهذه الحرية؛ ليس بخصوص البوركيني، بل برمزية ما يعني البوركيني لهاتين الكاتبتين ذوات الأقلام الحرة الرفيعة؟ وبالطبع لا ننسى فقدان العدالة الاجتماعية لكثير من مسلمي فرنسا في إنصاف حقوقهم كمسلمين والشباب منهم، فكيف بحرمان بناتهم من لبس حجابهن وهو في صلب هويتهن وليس البوركيني؟!

هذا كله من جهة من رفض البوركيني ودافع عنه وهو ليس من يلبسه أو ينتمي لديانة من يلبسه، ولكننا ومن جهة أخرى حتى نحاول إحقاق الحق واتباع موازين العدل مع النفس والغير، فلا بد لنا ألا نرمي الناس بالحجارة وأبواب ونوافذ بيوتنا من زجاج هش، بل هي عورة ظاهرة لمن أراد أن يعتليها، ونقول هذا والألم يعتصرنا. ولكننا قوم نتبع رسلنا عليهم أفضل الصلوات والتسليم: "لقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الحديد"

هل يمكن أن تكون علمانية فرنسا هي السبب وحدها في تجريم النقاب في الأماكن العامة والحجاب في المدارس والمؤسسات الحكومية؟ كيف يمكن لنا بسذاجة أن نقبل بهذا متجردين ولا نرى ونقيم تقصيرنا؟!

فمنذ ستينيات القرن العشرين والإسلام هو الدين الثاني في فرنسا العلمانية، بعد المسيحية الكاثوليكية، وقبل المسيحية البروتستانتية واليهودية. ولنأخذ بتقديرات أن تعداد المسلمين تجاوز 6 ملايين نسمة، وهم منتشرون في كل مدن فرنسا وريفها، وغالبيتهم من بلاد المغرب العربي بنسبة ما يقارب 70% موزعة (35% للجزائر)، (25% للمغرب)، (10% لتونس)، والباقون متحدرون من البلاد الإفريقية التي استعمرتها فرنسا، مثل ساحل العاج ونيجيريا والسنغال ومالي، وأعداد أخرى ليست بالقليلة من الأتراك ومن بلاد المشرق العربي، مثل العراق وسوريا وفلسطين ومصر.

إن جل من جاء إلى فرنسا في أوائل القرن العشرين ومن تناسل منهم وتبعهم من دولهم هم من العمالة الوافدة التي جاءت لتخدم الحركة الصناعية في ذلك الوقت، وتغطي القصور في الأيدي العاملة المطلوبة على جميع الأصعدة. 

لو عقدنا مقارنة بين هؤلاء وبين من جاء من شبه القارة الهندية من الباكستانيين والهنود وكيف استطاع هؤلاء أن يؤثروا في المجالس البلدية البريطانية المحلية ليكون للمسلمين صوت يُسمع، وحقوق لهم تُكتسب كونهم مواطنين، أسوة بغيرهم من المواطنين في البلد نفسه. فعندما جاء الباكستانيون والهنود إلى بريطانيا كان أعلى ما يبحثون عنه لتكون لهم راحة بال وكينونة شيئان عظيمان: المسجد واللحم المذبوح على الطريقة الإسلامية. فلم يكونوا ليتساهلوا في هذين الأمرين، وهو ما نشهده اليوم من تطور في تعداد المساجد واللحوم الحلال؛ ليس فقط الطازجة بل الصناعات الغذائية القائمة على اللحوم الحلال التي يستهلكها، ليس فقط المسلمون بل غيرهم ذي الخلفيات المختلفة.

ولا أعمم هنا القول إن الكل من هذا الفريق أو ذاك هو كله الأصلح أو كله الأسوأ، ولكن دعونا نحاول إقامة الموازيين بالقسط وجل من لا يخطئ ويسهو. فلو نظرت مثلا إلى أداء الجالية العربية في إنجلترا مع ضآلة تعدادهم بالنسبة لعرقيات جنوب آسيا مثلا لتبين لك الكثير. هل يوجد لهم شخصية برلمانية أو تمثيل في حزب بقوة وتمثيل مرموق؟ بل إذا نظرت إلى التمثيل في المجالس البلدية تكاد تراه منعدما.

وأبرز دليل كيف كان صادق خان، ذو الأصول الباكستانية؟ وكيف وصل إلى منصب عمدة لندن المنتخب سواء اتفقنا أو اختلفنا معه في بعض مرئياته؟ فلا نختلف ولا نعلق الأجراس ونصم الآذان ونلوم غيرنا في البوركيني وحدهم؟ وماذا فعلت الجالية المسلمة في فرنسا في ما يكفي احتياجاتها الحالية والمستقبلية منذ أكثر من ثمانية عقود؟ نتفهم أن العقلية الاستعمارية البريطانية غير العقلية الاستعمارية الفرنسية، ولكن هل عملنا لردم الهوة بين العقليتين بما تقتضيه نهضة الجالية المسلمة في كلا البلدين وبما يتسق أيضا مع كوننا نحمل رسالة الرحمة للعالمين؟  

وإذا أحببت أن ترى تطابق ما تراه من مشهد في دولنا العربية بشكل أسوأ مع ما تراه من ممارسات للزائرين والسياح العرب والبعض ممن جاؤوا بثراء فاحش ليقيموا فيها لترى مشهدا للبوركيني من منظور آخر. اذهب إلى شارع "إيجوارد رود" في لندن لترى أسراب مدخني النرجيلة في ذلك الشارع الرئيسي في عاصمة الضباب، وترى من هؤلاء من بجانبه امرأة أو أكثر في مشاهد تقشعر منها الأبدان، ناهيك عن بقايا الأوراق والمتسخات تحت طاولات هؤلاء في أسرابهم على طول هذا الشارع الرئيسي. لقد نجحنا في تصدير النرجيلة إلى الغرب وأسوأ منها. في بريطانيا قننوا تدخينها وتدخين النيكوتين في الأماكن العامة، بينما في دولنا تقطن في فندق خمسة نجوم فيقتلك شخص بتدخينه ومن معه ومن حوله، وكأنك أنت المذنب المرتكب لجرم التدخين وهم الأبرياء.

إنه مشهد بوركيني النرجيلة في لندن!!!

فهل تقوم بلدية لندن بمنع بوركيني النرجيلة في الشوارع ذات الأسراب المغطاة بالنايلون لتقي قاطنيها من المطر والبرد في كل فصول السنة حتى في أمطار الصيف؟
وسوف يقول لك قائل: ذاك في لندن فقط، أي في إنجلترا، فنقول له اذهب إلى مدينة مانشستر واذهب إلى مدينة برمنغهام لترى العجب العجاب من المسلمين بعربهم وعجمهم!!

ولا أعمم المشهد أعلاه بكل سوئه، ودعنا نفترض عدم وجوده، فإنك لتجد العجب العجاب من مراكز إسلامية لا تتفق على بداية رمضان ولا العيدين، بل منهم بكل جنون من يرى أن المشاركة في الانتخابات البرلمانية والبلدية حرام!! وذات يوم كنت في إحدى الدعوات في محافظة مدينة بريستول فقال العمدة الذي يحين دوره في دورته المقبلة: لماذا لا نعمل بداية العام الهجري إجازة رسمية في المدينة وهي رابع مدينة رئيسية في إنجلترا؟ قلت في نفسي أي يوم هذا الذي سنتفق عليه؟ أهو فلكي أم سوف يأتي أحدهم يريد رؤية ولادة هلال شهر محرم في المدينة؟ ويفعل هؤلاء كل سنة عن طريق المرصد حتى عيّد الناس في مساجدهم في عيد الأضحى خلافا للعيد بعد وقفة عرفات التي لا يمكن أن يختلف فيها مسلم مع أخيه، ويتكرر المشهد كثيرا!!

إنه البوركيني بطريقة مختلفة عن بوركيني السباحة. وهل لو وضعت نفسك مكان من يرى في بلاده مجنونا يقتحم جموعا بشرية ليقتل البشر في نيس فرنسا وغيرها، ومن يهاجم متاجرا ليهلك البشر والممتلكات، فهل ستكون هناك كل أصوات بلدك تقبل الشيء نفسه؟ هل تقول تلك الأصوات اتركوهم لا علاقة لهؤلاء بهؤلاء؟ ناهيك عن إعلام مدجج وعنصرية مترامية ذات أبعاد سياسيه؟ وهل نهرب من الاعتراف بوجود الفكر المتطرف، ليس فقط إرهابيا، بل انقساميا تفتيتيا لوحدة الصف الإيماني والسياسي والاحتياجي والكينوني للجالية المسلمة؟ 

هذا الفكر الانقسامي لا يقل دوره في ملء الفراغ الذي يأخذه الفكر المتطرف. ولكن للأسف هناك من لهم أجندات لا يريدون للفكر الوسطي أن يسود وتعم الرحمة والسلام والخير للإنسانية، تلك هي الرسالة التي جاء بها سيد الخلق أجمعين عليه الصلاة والسلام: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (107) الأنبياء.

بالطبع، لا يمكن في مساحة مقال كهذا تغطية موضوع في كنهه بكلمات محدودات، وقد أبدع وأفاد غيري وأبلى بأفضل مني، فهي كلمات ربما هي في صدور كثير ممن يقرأها، ولكن البوركيني ربما يقول لكل من طرفي المعادلة: لا تظلموني فإني بريء منكما.

رحم الله ضعفنا، وجبر كسرنا، وهدانا لطريق الحق أجمعين؛ لنكون رحمة للعالمين.
0
التعليقات (0)