قضايا وآراء

الجيش والانعطافات الكبرى (عرابي نموذجا)

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
منذ تأسيس محمد علي للجيش المصري عام 1820م وحتى يومنا هذا، سنجد أن هذا الجيش الكبير كان حاضرا بقوة في الانعطافات الكبرى في تاريخ مصر والمنطقة العربية، والشواهد التاريخية على ذلك كثيرة، معاهدة 1840 التي أسست لحكم الأسرة العلوية كانت من نتائج حركة الجيش الذي شارف حدود الأستانة، الاحتلال الإنجليزي 1882 كان من نتائج حركة الجيش. خلع الأسرة العلوية 1952م كان من نتائج حركة الجيش، تعملق إسرائيل وتسيدها كان من نتائج حركة الجيش 1967م، والأمثلة عديدة في حقيقة الأمر، وتتباين في نتائجها وآثارها، أشير أيضا إلى أن كتابة التاريخ ودراسته واستخلاص نتائجه تتم عادة بعد غياب أهم شيء في صنع أي حدث، وهو سياقه وظروفه وزمنه، ثم إن الحكم على هذه التحركات مثله مثل الحكم على أي حدث تاريخي كبير، لن يخلو بحال من الأحوال من(الميول الذاتية).

في هذه الأيام، وفي ذكرى حرب أكتوبر 1973م، التي كانت نتاجا طبيعيا لحرب يونيو 1967م، التي كان نتاجا طبيعيا لحركة الجيش في 1952م، التي كانت نتاجا لحركة عرابي 1882، التي كان لها أثر كبير يدعونا للوقوف عليه قليلا اعتبارا وتبصرا... (وهو موضوع المقال). كل هذه التداعيات تدعونا للتأمل في كل تلك الأحداث والحكايات التي وراء تلك الأحداث، ناهيك طبعا عن ما حدث في 25/1/ 2011 و30/6/2013، وما تلا كل ذلك من أحداث ضخمة بالغة التأثير في المجال الاجتماعي والفكري والسياسي
 
سيكون علينا أن نتذكر دائما أن التاريخ مليء بالحروب والمعارك والانتصارات والانكسارات ومواقف الشرف والنصرة ومواقف الخيانة والخذلان، وأن هناك انتصارات رسخت أمما بحدودها الجغرافية وقيمها الفكرية والحضارية ومصالحها الاستراتيجية، وهناك هزائم خلخلت أمما، وأسست بنفسيه الهزيمة وتوابع الهزيمة لما بعدها، من تلك الهزائم هزيمة عرابي في (التل الكبير)، التي أسست للاستعمار البريطاني في مصر والشرق العربي كله، والذي أدى إلى استيلاء بريطانيا على فلسطين في الحرب العالمية الأولي،‏‏ ثم أدى بعد ذلك إلى وعد بلفور وإقامة دولة يهودية في فلسطين، ولو أن عرابي كان قد قدر له أن  ينتصر في عام‏1882‏ كما انتصر المصري من قبل على حملة فريزر، لتغير ميزان القوى في المنطقة العربية كلها‏..

 هناك آراء تقول إن بدايات التمرد داخل الجيش المصري، التي انتهت إلى ما انتهت إليه، تم الإفادة منها وتوجيهها في الاتجاه المراد، بحيث مثلت ذريعة قويه للجيش البريطاني باحتلال مصر والبقاء بها ثمانين عاما.. والإنجليز بطبائعهم الموروثة أساطين في المكر والتلاعب بالأحداث وتوجيه مسارها.. وهو ما كاد يجمع عليه كل من اشترك فيها وأرخ لها فيما بعد، من البارودي إلى الشيخ الإمام محمد عبده وقاده الجيش الكبار أمثال عبد العال حلمي وعلي فهمي، غير أننا لا نستطيع أن نغفل أن مجموعة  كبيره من رجالات الأمة وأعيانها دعموا هذا التمرد وساندوه، ففي 22 يوليو 1882 م عُقِد اجتماع في وزارة الداخلية حضره نحو خمسمئة فرد من أعيان الأمة، يتقدمهم شيخ الأزهر وقاضي قضاة مصر ومفتيها ونقيب الأشراف وبطريرك الأقباط وحاخام اليهود والنواب والقضاة والمفتشون ومديرو المديريات وكبار الأعيان وكثير من العمد، فضلا عن ثلاثة من أمراء الأسرة الحاكمة. وهو ما يعني أن المناخ السياسي العام في البلاد كان مهيأ لقبول تحرك ما ضد الأوضاع القائمة.

في هذا الاجتماع، أفتى ثلاثة من كبار شيوخ الأزهر، وهم الشيخ عليش والشيخ العدوي والشيخ الخلفاوي، بمروق الخديوي عن الدين لانحيازه إلى الجيش المحارب لبلاده، وبعد مداولة الرأي أصدرت الجمعية قرارها بعدم عزل عرابي عن منصبه -وهو القرار الذي كان الخديوي توفيق قد أصدره- ووقف أوامر الخديوي ونظّاره وعدم تنفيذها لخروجه عن الشرع الحنيف والقانون المنيف.

 لا يمكن اعتبار كل هؤلاء بالمغررين الأحداث، لكن المؤكد في كل ذلك أن عرابي لم يكن هو فارس هذه الثورة ورجلها المختار، وهو ما تؤيده الأحداث، سواء في الأيام الأولى للهزيمة في الإسكندرية أو يوم العار الأكبر في التل الكبير، لندع خيانة علي يوسف خنفس –الشهيرة- جانبا ونتساءل عن عدم استماعه لعدد القادة بضرورة غلق قناة السويس، حتى لا يستفيد منها الإنجليز فلا يفعل..!؟ ويستمع بمنتهى البراءة لقول ديليسبس بأن القناة محايدة، ولن يجرؤ الإنجليز على استخدامها في وقت الحرب، ولكنهم استخدموها!! نتساءل عن قائد الثورة الذي يعقد قران ابنه في معسكر التل الكبير والإنجليز على الأبواب! ونتساءل عن القائد الذي يصغي السمع خادمه وهو يرجوه أن يفر وينجو بروحه، فيسمع لنصحه ويهرب مع الهاربين بدلا من أن يموت شهيدا بين جنوده وقواده، (وطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم..) ناهيك عن تسليمه سيفه للقائد الإنجليزي على أبواب القاهرة..(كيف حملت العار ثم مشيت دون أن اقتل نفسي دون أن انهار).

ثم يأبى التاريخ إلا أن يسجل له أسود الصفحات بدءا من محاكمته، وحتى عودته من منفاه وتصريحه لجريده المقطم في أكتوبر 1903: "نشكر الذين نازلناهم في ساحة القتال وكانوا لنا أعداء فصاروا لمصر خير الأصدقاء"، قاصدا الاحتلال البريطاني غير كم الرسائل التي أرسلها لكل الدنيا يشهد ويقر فيها على نفسه بأنه كان مخطئا، وأن الإنجليز كانوا على صواب، مبتغيا من وراء ذلك أن يعيش(حياه) ستنتهي ولو عُمِر مثل ما عَمر نوح، وسيبقى ذكر ما كان فيها إن كان شرفا فشرف، وإن كان ذلا فذل، يقول الرافعي في كتابه عن الثورة العرابية: "لقد انتقدت في كتابي ما جري في التل الكبير من تجاوزات، وأخذت على عرابي تسليمه سيفه للقائد البريطاني، وكنت أتمني لو أنه استشهد في المعركة‏، وأخذت عليه موقفه الضعيف المتخاذل في المحاكمة" مصطفي كامل كتب سلسلة من المقالات في جريدة اللواء في ‏سبتمبر ‏1901‏ جاء فيها‏:‏ عار أكبر وأشهر من عار، رجل تهور جبانا، واندفع جاهلا، وساق أمته إلى هوة الموت الأدبي والاستعباد الثقيل، ثم فر هاربا من ميادين القتال. وكتب أحمد شوقي يهاجمه بقصيدة مشهورة جاء فيها‏: ‏صغار في الذهاب والإياب** أهذا كل شأنك يا عرابي.. وكذلك فعل البارودي وغيرهم.
 
سيأتي بعد ذلك المفكر والشاعر والمؤرخ أ/ محمود الخفيف ( أحد أساتذة المستشار طارق البشرى كما قال لي في المدرسة الإبراهيمية الثانوية) ليكتب كتابا هاما بعنوان (أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه)، يستحضر فيه المشهد النضالي الذي خاضه عرابي ضد الإنجليز وضد الخديوي توفيق والمعارك التي خاضها في كفر الدوار والهزيمة المرة في التل الكبير، تلك المعركة التي جسدت الخيانة تجسيدا كما يقول_ وفي تحويلِ رحى الحرب من النصر إلى الهزيمة، وكيف تُأْسرَ الزعامة بين قضبان الخيانة.. وهو عكس كل ما قيل وكتب عن (حركة عرابي والجيش).

ألم أقل أولا إن أي حدث تاريخي كبير لن يخلو بحال من الأحوال من (الميول الذاتية)، كلنا ذاتيين بدرجة من الدرجات. 
0
التعليقات (0)