قضايا وآراء

الليث بن سعد .. أسطورة الفقه الغائبة

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
لا تنطبق مقولة (المعاصرة حجاب) مثل ما تنطبق على المصريين فى تعاملهم مع علمائهم ومفكريهم المعاصرين لهم. وكلما قرأت في تاريخ تراثنا الفكري والفقهي وحتى السياسي والاجتماعي كلما ازددت يقينا بهذه الحقيقة. ولماذا نذهب بعيدا، ففي الحاضر اللئيم تبدو أمامنا هذه الحقيقة بوضوح، ولكم أن تتخيلوا قيمة أسماء بحجم جمال حمدان وحامد ربيع وعبد الوهاب المسيري وكيف حجب الحاضر بينهم وبين إدراك الناس لقيمتهم الكبرى ولعل التاريخ له كلمة أخرى قادم الأيام.

أقول هذا وأنا في غاية الاستغراب والدهشة من غياب فقه وعلم فقيه بهذا الحجم الأسطوري مثل الليث بن سعد، عن التدوين والتوثيق والحفظ، ولعل من بركات حياته وعلمه أنه كان سببا لمجيء الشافعي الى مصر وكان من أثر هذه (الرحلة المصرية) للإمام الشافعي طلبا للعلم من الليث أن يبقى ويعيش ويموت في مصر، ويضرب لنا أروع مثل للوفاق التام بين الفقه والمصلحة وواقع الناس كل في بيئته ومجتمعه فيغير فتاوى قالها في (الرحلة العراقية) كونها لا تناسب البيئة المصرية والمجتمع المصري. 

أين هذا من شيوخ جهلهم بمقاصد الدين يعادل جهلهم بالحياة نفسها؟
تقول الحكاية أن مالك العظيم أدرك أن تلميذه النابغة يتجاوز بقدراته عطاءات أستاذه ففتح أمامه أفق التواصل مع كل مدارس الفقه في عصره، فنصحه بالذهاب الى العراق ليتعرف على مدرسة الرأي والعقل، وذهب وعاد الى أستاذه فقال له ليس هذا نهاية الطريق اذهب الى مصر واسمع من الليث بن سعد، وكانت بين الليث ومالك صداقة جميلة وفعلا ذهب لكنه لم يدركه في الحياة، فما كان منه الا أن بحث عن تلاميذ له كما وجد (الشيباني وأبو يوسف في العراق) فلم يجد؛ لكن مشيئة الله قدرت له أن يبقى في مصر وأن ينتج ما أنتجه من أحكام وضبط لعلوم الفقه ووضع قواعد (أصول الفقه).

من هو الليث بن سعد الذي قال عنه الشافعي انه أفقه من مالك؟؟
كبير الديار المصرية ورئيسها وأمير من بها في عصره، المولود في شعبان سنة 94هـ في محافظة القليوبية (بنها)، إلى حد أن الوالي والنائب والقاضي كانوا تحت أمره ومشورته.
تحتفظ المكتبة الإسلامية بكتابين مهمين عن الإمام الليث: كتاب للدكتور سيد أحمد خليل كتبه سنه 1969م والثاني للدكتور عبد الحليم محمود كتبه سنه 1977م.  ذكر الدكتور سيد في كتابه أن الليث ليس له كتب، وجمع له 14 فتوى من عدة كتب أهمها تفسير القرطبي، وأكد في دراسته أن الليث أقام مذهبا بالمعنى الكامل، لكنه للأسف لم يقم به تلاميذه كما قال الشافعىي. وذكر أيضا ان الليث له كتاب في الفقه لازال مفقودا حتى الآن اسمه (المسائل) وله كتاب فى التاريخ، إذ تؤكد الروايات أنه كان من أكثر العلماء اهتماما بالتاريخ كعلم، ولا غرابة في ذلك من رجل بقامة وقيمة الليث فلا يغفل عن التاريخ إلا غافل و(مغفل) فالأيام كالأيام والدهر كالدهر والناس كالناس والدنيا لمن(عرف).).

كتاب الدكتور عبد الحليم محمود خلص فيه إلى أن الليث كان متصوفا، وطبيعي أن يذهب شيخنا الجميل هذا المذهب ويرى في حياة الليث من الزهد والإخلاص والتجرد واليقين ما يشير الى تصوفه وهو بذلك يقدمه كمثال على التصوف الذي يخالط الحياة والناس ويعيش الدنيا وهي في يديه وقلبه معلق بالنظر لأعلى.

هناك أيضا رسالتان للدكتوراه واحدة أعدها الباحث محمد حسن عبد الغفار (جامعة الأزهر) بعنوان الليث بن سعد و أثره في الفقه الاسلامي، الذى قال ان اختياره للموضوع يرجع إلى ما تمتع به الإمام الليث بن سعد من مكانة وحضور طاغ بين علماء عصره حيث بلغ ذروة الرئاسة وتربع على قمة الرواية والدراية، وأوصت الرسالة بمعرفة الأسباب التى أدت الى اندثار فقه الإمام الليث ومدى تأثيره على فقهاء عصره، (وطبعا لم يفعل احد بالتوصية). الرسالة الأخرى للباحث محمد أبو الشيخ (جامعة عين شمس) وتناولت حياته وعطاءه وجهده كمؤرخ ومفسر وفقيه.  

هل كان انشغال الليث بالحياة العامة والعمل العام سببا في عدم تدوين فقه وبالتالى غيابه عن الوصول إلينا؟ فمما يروى أنه كان لليث كل يوم أربعة مجالس مجلس للحاكم الذى كان يأتيه يوميا ويناقش معه أمور البلاد ومجلس مع القاضي وكان إذا أنكر من أيهما شيئا كتب الى أمير المؤمنين فيأتيه العزل فورا ومجلس ثالث لأصحاب الحديث والمسائل ومجلس رابع لحوائج الناس، وطبيعى أن لا يكون هناك وقت للكتابة والتدوين بعد كل هذا الجهد وكل هذا الوقت وأتصور أن هذا كان خطأ من تلاميذه لأنه فى النهاية لا يتبقى من العالم بعد سيرته الطيبة إلا أثاره المكتوبة وأذكر أن الدكتور عبد الوهاب المسيرى رحمه الله كان شديد الحذر من مسألة الاندماج فى الحياة العامة بلقاءاتها واحتفالاتها واجتماعياتها التى لاتنتهى وكان يقول لو تركت نفسى لذلك فلن أنتج شيئا ..ورحل تاركا لنا ستين كتابا.

كان الليث من أثرى أثرياء عصره (دخلة السنوي كان ثمانين ألف دينار والدينار كان يساوى جرام وربع ذهب) ويذكر المؤرخون انه لم تجب عليه زكاة قط لأنه لم يمر عام كامل على أمواله وهي كاملة، وكان أكثر إنفاقه على العلماء دعما لتفرغهم التام للعلم ولعدم تعرضهم للضغوط من ذوى النفوذ والسلطان. كان يرسل إلى الإمام مالك سنويا فى المدينة ألف دينار. روايات الكرم تروى عنه بما يذهل من يعرفها لدرجه أن هارون الرشيد شعر بالحرج من إنفاقه كما تروى الروايات. ذلك أن الرشيد أرسل إلى الإمام مالك ذات مرة 500 دينار فبلغ ذلك الليث فأرسل اليه 1000 دينار فغضب الرشيد وأرسل الى الليث وقال له تفعل ذلك وأنت من رعيتى فقال له يا أمير المؤمنين (إن لي كل يوم من غلتي ألف دينار فاستحييت أن اعطى من هو مثل مالك أقل من دخل يوم) .. لم يكن هذا المبرر دقيقا بالمعنى الكامل لموقف الليث، إذ يبدو أنه كان حريصا على أن يعلي من شأن دولة الفكر في وجه دولة الحكم، ومما يؤكد ذلك رفضه المتكرر أن يكون واليا على مصر في عهد المنصور الذى كان معجبا بطاقته العقلية وقدراته الشخصية بدرجة كبيرة .الى درجة أنه انفعل على المنصور مرة فى حديث معه فقال له الحمد لله أن جعل في رعيتي من هو مثلك.

وفى ليلة النصف من شعبان سنه 174هـ غاب عن الإسلام والمسلمين أحد أعظم فقهاء الأمة وأحد أكبر رجالاتها، وسارت له جنازة من أعظم الجنازات، وحزن عليه الناس حزنا عظيما وكانوا يعزون فيه بعضهم بعضا وكأنهم يقولون في تشييعه: ذهب الناس ومات الكمال** قوموا وانظروا كيف تسير الرجال!.
2
التعليقات (2)
عبد الغني
الجمعة، 10-04-2020 11:57 ص
حسب ما رأيت في مسلسل الإمام الشافعي أنه كان هناك تلميذ متعصب لمذهب الإمام مالك و شخص آخر كان جار الإمام ليث بن سعد ،قاما بإغراق سفينة الليث بن سعد والتي كانت تحتوي على كتبه هل هذه القصة صحيحة ؟؟؟
محمدخضر
السبت، 26-05-2018 09:59 م
اللهم ارحم الموتي واغفرلهم