مقالات مختارة

مؤتمر «فتح» السابع: العواصف المقبلة أشدّ عتوّا!

صبحي حديدي
1300x600
1300x600
مَنْ يصغي إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ولكن تحت صفة زعيم «حركة التحرير الوطني الفلسطيني» (فتح)، سوف يحار في أمر «قائد» حركة تحرّر وطني لا يرى في الانتفاضات الشعبية العربية إلا صفة ربيع لا هو بالربيع، ولا هو بالعربي، لأنّ «ما يحصل الآن هو سايكس بيكو جديدة». 

وأمّا أوان الحيرة، فالأرجح أنه سيكون قصيرا، وربما عابرا، حين يتذكر المصغي إياه أنّ التصنيفات هذه قيلت في خطبة افتتاح المؤتمر السابع لـ»فتح»؛ وأنّ الرئيس/ القائد، القائل، خلع منذ سنوات طويلة كوفية مقاوم الاحتلال والمناضل من أجل «التحرير الوطني الفلسطيني»، وألقى عصا الترحال عند انشغالات بروتوكولية، بعضها دامع كئيب، مثل المشاركة في تشييع شمعون بيريس.

بيد أن عقابيل الرئيس/ القائد تهون، والحقّ يُقال، أمام ما تشهده الحركة ذاتها التي أعادت انتخابه خلال مؤتمرها السابع؛ الذي ينعقد بعد مؤتمر 2009 السادس، وهذا الأخير كان قد تأخر بعد استعصاء دام… 20 سنة! وللكاتب والحقوقي الفلسطيني مهدي عبد الهادي تشخيص طريف، صائب وبليغ، لمعضلات «فتح»، ينهض على أربع متتاليات لحرف الفاء: فلتان، فساد، فوضى، فتنة! وفي ضوء واقع الحركة كما تنقلها وقائع مؤتمرها الراهن، ليس من الواضح أنّ أيا من هذه المتتاليات قد فقد زخمه -إذا جاز الحديث عن زخم، هنا- أو تراجعت مفاعيله على تنظيم الحركة، وربما على بعض عقائدها أيضا.

وبمعزل عن «فلتان» قيادات المنظمة، بين الداخل والخارج، وبين مجموعة الرئاسة ومجموعة فاروق القدومي ومجموعة أبو ماهر غنيم ومجموعة هاني الحسن (وإقصاء مجموعة محمد دحلان، ورهط «المتجنحين»!)؛ ثمّ بصرف النظر عن ارتطام الفلسفات، بين جيل المؤسسين وأجيال الكوادر الوسيطة والشابة، ما قبل الانتفاضة الأولى وما بعد اتفاقيات أوسلو؛ فإنّ ما جرى حتى الساعة بين أبناء «الشريحة الفتحاوية» الواحدة، ذاتها، لا يلوح أنه تعبير عن عافية من نوع ما، في ثقافة الحوار والخلاف، بل هو أقرب إلى مكوّنات انفجار داخلي لن يسفر عن انشقاق أو انشقاقات، فحسب؛ بل عن قطيعة جذرية، بعد كسور وصدوع. والأرجح أنّ في طليعة الأسباب التنظيمية التي صنعت فجوة السنوات العشرين بين مؤتمر وآخر كان هذا «الفلتان» تحديدا، سواء اتخذ صفة الخلاف حول السياسات الفلسطينية الوطنية العامة في مواجهة إسرائيل، أو في المحيط الإقليمي؛ أو دار جوهره حول نزاعات تنظيمية داخلية، بصدد قضايا متشعبة واسعة، صغيرة عابرة أو خطيرة مزمنة.

وفي ملفّ الفساد، كان فشل الحركة الذريع في الانتخابات التشريعية، مطلع العام 2006، هو الثمن الباهظ الذي توجّب أن يدفعه الفتحاويون لقاء تورّط بعض كبار قياداتهم في استغلال النفوذ والإثراء الفردي، مباشرة أو عبر الأبناء والشركاء والوسطاء والأزلام؛ وبلغ الأمر ذروة درامية قصوى حين شاع أنّ قياديا من الصفّ الأوّل كان متعهد توريد الإسمنت إلى الشركات الإسرائيلية، التي تولّت بناء جدار العزل العنصري. 

ولقد أجمع الكثيرون على قبول تلك الخلاصة العجيبة التي تقول إنّ الناخب الفلسطيني لم يمنح حركة «حماس» تلك الأغلبية الساحقة في المجلس التشريعي، إلا لأنه كان يُنزل العقاب الشديد بحركة «فتح». ذلك، بالطبع، لا يلغي حقيقة أنّ اعتبارات أخرى كانت قد تدخلت في تكييف ميول الناخب الفلسطيني، مثل فشل اتفاقيات أوسلو وعجز السلطة الوطنية الفلسطينية -والحركة تُعتبر عمودها الفقري، وفصيلها الأبرز والأقوى- عن حلّ مشكلات المجتمع الفلسطيني، المعيشية اليومية منها، أو تلك التي تخصّ الاستيطان والإفراج عن السجناء الفلسطينيين وفتح المعابر وسواها.

في الجوهر البسيط كانت الأسئلة تسير هكذا: كيف، ولماذا، تمكنت «حماس» -الإسلامية، حديثة العهد، المنكفئة في غزّة أساسا- من اجتياح أيقونة الديمقراطية، أي صندوق الاقتراع، على ذلك النحو غير المنتظَر أبدا؟ وكيف، ولماذا، فشلت «فتح» - التاريخية، «العلمانية»، العرفاتية… حتى في الحفاظ على حجمها السياسي كما كانت تؤكده الحسابات؟ وهل كان يكفي أن تكون بعض قيادات الحركة فاسدة، لكي يهبط بها الشارع الفلسطيني إلى ذلك الدرك المهين؟ أم أنّ المحاسبة على الفساد هي، أوّلا، عقاب على فساد السياسات قبل فساد الذمم؟

مشروع الانقلاب الأمني/ العسكري/ السياسي، الذي أراد محمد دحلان تنفيذه في غزّة ضدّ «حماس»، صيف 2007؛ كان ذروة أخرى في الفوضى داخل الحركة، وتبعثُر قراراتها بين أجهزة سياسية وأخرى أمنية وثالثة أقرب إلى الإمارات الشخصية المستقلة. وليس أمرا غريبا، استطرادا، أن تصبح تلك المغامرة، ثمّ شخص دحلان نفسه، بندا شبه دائم على الأجندات الفتحاوية، خاصة بعد تحميله المسؤولية المباشرة عن هزيمة الحركة في غزّة، استنادا إلى معطيات كانت قد توصّلت إليها لجنة التحقيق الثانية، المؤلفة من أعضاء اللجنة المركزية، الطيب عبد الرحيم وحكم بلعاوي وعبد الله الإفرنجي، إضافة إلى عضو المجلس الثوري عثمان أبو غربية. 

وكان الصحافي البريطاني دافيد روز قد نشر، في مجلة Vanity Fair لشهر نيسان (أبريل) 2008، تحقيقا مثيرا عن ذلك الحدث، اعتمد فيه على وثائق أمريكية رسمية عالية السرّية، تبرهن أنّ دحلان -في صفته الأمنية الممثّلة للسلطة الوطنية- قام بالتنسيق مع جهات أمريكية وإسرائيلية بالتخطيط لانقلاب أرادوا منه أن يتعشّوا ب-»حماس»، فتغدّت بهم!

والفتحاوي الذي وصف حركة «حماس» بأنها «إرهابية» و»انقلابية» و»تكفيرية»، كما فعل الرئيس الفلسطيني في خطاب ناريّ أمام المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية (الذي، للإيضاح المفيد، لم يكن قد اجتمع منذ عام 2003!)؛ فماذا يسمّي ذلك الفتحاوي ناخبي «حماس» الذين صوّتوا لها بالأغلبية الكاسحة الشهيرة؟ هل هم، بدورهم، «إرهابيون» و»انقلابيون» و»تكفيريون» و»خونة»؟ 

وإذا كان رئيس كلّ الفلسطينيين (وليس الزعيم الفتحاوي فقط، أخلاقيا ودستوريا في الأقلّ) أطلق هذه الصفات على أبناء شعبه ناخبي «حماس»؛ فهل نلوم الخطاب الإسرائيلي أو الأمريكي إذا وضع الفلسطينيين، جميع الفلسطينيين، في خانة الإرهاب؟ وكيف صحا عبّاس، ذلك اليوم فقط، على هذه الحقائق الإرهابية الانقلابية التكفيرية الخيانية لحركة هزمت حركته التاريخية، وكلّفها بتشكيل حكومتين، ووقّع معها اتفاقا ذهبيا في رحاب مكة المكرّمة، برعاية سعودية، وفي غمرة إغداق متبادل للمديح، وإهراق للنوايا الطيبة؟

ومع ذلك، فإنّ الأهمّ أمام مؤتمر «فتح» يبقى حسن استثمار حقيقة كبرى أساسية تقول إنّ المجتمع الفلسطيني المعاصر، الواقع تحت واحد من أبشع الاحتلالات وأكثرها فاشية وبربرية على امتداد الذاكرة الإنسانية، ليس نابضا بالحياة فحسب، بل هو أكثر حيوية من معظم -لكي لا نقول: جميع- المجتمعات العربية الأخرى الواقعة تحت هذا الشكل أو ذاك من أنماط الاستبداد والشمولية والاحتلالات الخارجية المقنّعة أو حتى المباشرة. وهو مجتمع برهن على أنّ أنساق مقاومة الاحتلال كانت، وتظلّ، إطارا تربويا في ما يخصّ السياسة، وخزينا فكريا وأخلاقيا صانعا للوعيّ العصري المتقدّم في ما يخصّ علاقات المجتمع المدني. والانتخابات، الرئاسية ثمّ التشريعية، التي سبق أن أُجريت تحت مجهر مراقبة غربيّ لصيق وصارم، برهنت أنّ هذا المجتمع علمانيّ الروح، تعدّدي المزاج، ديمقراطي السلوك، يقظ، ذو بصر غير حسير، وبصيرة غير قاصرة.

وأن تنتقل متتاليات الفلتان والفساد والفوضى والفتنة من المؤتمر الفتحاوي السادس إلى نظيره السابع، أمر يصعب أن يهضمه مجتمع من هذا الطراز. وثمة -استطرادا- نُذُر عواصف عتيقة، تستجمع ذاتها في أخرى جديدة، أشدّ عتوا!
0
التعليقات (0)