كتاب عربي 21

انتقاص الشريعة بين التطرف وجهل التنويريين

شريف أيمن
1300x600
1300x600
لا بد من التنويه بداية أن لفظة "التنويريين" ليست مقصودة بمعناها الحرفي، بل هي موضوعة هنا وفقا لما جرت عليه عادة بعض المخالفين للإسلاميين في وصفهم لأنفسهم أو وصف أنصارهم لهم، والتنويه لئلا يلتبس مراد المتكلِّم بمراد المتكلَّم عنهم.

ومما جرت عليه العادة كذلك، أن يتم الهجوم على الإسلاميين كلهم عقب كل عمل إجرامي يصدر من جماعة تقصر عضويتها على المسلمين أو تزعم نسبة أفكارها للدين، ومؤخرا تم القفز سريعا ليتعدى الهجوم إلى جمهور المسلمين ممن يناصرون الإسلاميين أو حتى ممن يتلقون العلوم الشرعية من المؤسسات الرسمية وإن لم ينتموا لحركة ما ولا يسلم رموز الاعتدال من الهجوم بطبيعة حال "التنوير"، وصار معتادا كذلك غمز النص التشريعي المقدس أو التصريح بتسببه في إحداث التطرف، وكل هذا يصدر من جماعة التنويريين الذين يتصورون إمكانية فهم أمور الدنيا والدين بمعزل عن "ظلامية الأديان ورجعية المحافظين عليها"، بأوصاف مطلقة وأحكام معلّبة وجهل مركّب لماهية النص وكيفية تفسيره وطريقة اعتباره كرأي ديني وما يفصل بين فتوى الحال والحكم المستقر وكذا مراعاة ضرورة الخروج عن الحكم الأصلي لدفع مفسدة أو جلب مصلحة، مما تقرر في كتب الفنون المختلفة ويئن بحملها هذا الموضع.

أصبح ما يسمى بالتنوير يُصاغ في صورة الدعوة لإعمال العقل بالنقد، دون الأخذ في الاعتبار ضرورة استكمال أدوات النقد بمراعاة الطبيعة العلمية للمسألة التي سيقوم النقاش حولها، وأصبح حديث "التنويريين" عن ضرورة إعمال العقل في فهم الدين، كمن يطالب أميا ببحث الرأي الطبي في كيفية معالجة السرطان، وهو عين العبث إذ لا يمكن لمن لا يحسن القراءة أن يتكلم في الطب، كما لا يمكن لمن حاز درجة الدكتوراه في الهندسة أن يناقشها كذلك، لغياب الأصول العلمية التي تقوم عليها أرضية المباحثة، وهذا خبل علمي تقع فيه جماعة تزعم إعلاءها من شأن العلم وتدعو لجعله حكما على كل شيء حتى على ما خرج عن قدرته كعالم الغيب.

تخرّج من المدارس الفقهية الإسلامية عشرات الآلاف من حملة الدين، وكان لكل عصر من العصور الممتدة على مدار التاريخ مجددون يبيّنون للناس أحوال ما نزل بهم وما استجد في عصرهم، ولا زال الحال على ذلك في زماننا، لكن جماعة "التنوير" لا تعترف بفضائل أحد باعتبار حاله الكليّ، بل يقفون عند ما يرَوْنَه زلّات أو زلّات بالفعل ليهدموا كل تراثه وحاضره ومستقبله، في حالة شطط فكري واعوجاج علمي في تقييم إسهامات الحضارة الإنسانية، لم يسلم الغزالي من ذلك وكذلك الشعراوي والقرضاوي والعوا والبشري وعمارة وجاد الحق والطيّب وغيرهم الكثير، فإذا تم هدم إسهام هؤلاء بشكل كامل، فمن سيقوم على تفسير الدين؟ هل سيفسره جابر عصفور والسعداوي ومنتصر ودغيدي وجمال البنا؟ أم سيقوم كل فرد بتفسيره وفقا لفهمه هو دون انضباط علمي؟ أم سيُترك التفسير لمن يسير على هداية التنويريين ومرادهم؟ أم سنترك الدين ليفسره الدواعش والمغالين فيه على اختلاف درجات تطرفهم؟ ومنذ متى يتم الأخذ والترك من أحدهم وفقا لموقفه في مسألة واحدة أو بضع مسائل؟ إن العمران يقوم على الاعتراف بفضل ذوي الإحسان، وإساءتهم مردودة عليهم دون تعديها لباقي فعالهم، وإلا ما انتفع أحد بأحد.

إن الإقرار بوجوب النقد الدائم ليس من قبيل الترف ولا المجاملة، كما أن الحفاظ على ضوابط النقد لا يحتمل المجاملة كذلك، ونزعُ الدِّثَارِ الديني عن ممارسات التطرف واجب كل المؤسسات الدينية الرسمية والأهلية، فالانتقاص من الدين كما يحصل بالتطاول عليه، يحصل كذلك بالتفسير الخاطئ غير المنضبط بمنهجية علمية مستقرة، ويحصل بنِسْبَةِ ما ليس منه إليه.

نحن أمام فوضى كاملة على مستوى الاجتماع والسياسة والفتوى، والاهتمام بضبط الفوضى يدفع من هو خارج عن أهل التخصص -مثلي- للاقتراح عليهم بوضع ضابط لترجيح عملية تفسير النص، وهو أن يكون الحَكَم بين الآراء المتعارضة والتفسيرات التي تتراوح بين الغلو والتسيّب، ما كان معتمَدا في أحد المذاهب الأربعة وفقا لما يناسب حال الناس في هذا البلد، واستحداث ما يخالف المذاهب في أمور السياسية والمعاملات أو الجنوح لغير المعتمد فيها يكون من المجامع الفقهية المنتشرة في كل الأقطار، حتى الموجودة لدى الأقليات كالمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.

الدافع لذلك الحديث خرج من رحم التفجيرات التي وقعت لإخواننا المسيحيين المصريين في مكان يفترض فيه تمام الأمان لهم ولغيرهم، ولا يمكن تصوّر صدور ذلك السلوك من آدمي فضلا عن متمسك بأوامر دين يجعل تحيته سلام وخَتْمَ صلاته سلام، ولا تجمّل في رفض ذلك الجُرم والغدر بالشيوخ والنساء والأطفال العزل الأبرياء.

هذا الموقف أحد المواقف التي يعجز فيها القلم عجزا حقيقيا وكاملا عن التعبير عن حجم المرارة والأسى، فصور العجائز الذين كانوا في موقع التفجير والنساء اللائي قتلن والأطفال الذين لم تتلوث حياتهم بأي عارض من عوارض الدنيا، ومشهد الأم التي رأت ابنتها أمامها صريعة وفقدتها وهي مقبلة على عيد، كلها مشاهد لا يمكن التعبير عن أثرها ولا الأسف حيالها، وهذه الدماء التي سالت تلعن سافكها، والدموع المسكوبة من ذوي الضحايا تحرق مجراها ويبقى أثرها ما بقي الناس، ولا تكفي المواساة لتطبيب الجراح، فالموت لا يخلفه شيء.

خالص العزاء للمكلومين من كل المصريين، وعسى أن يرتفع غَمام التطرف والاستبداد والطائفية التي سكنت صدورنا وحياتنا أجمعين.
التعليقات (5)
Dr. Walid Khier
الخميس، 13-04-2017 02:42 م
" أم سيقوم كل فرد بتفسيره وفقا لفهمه هو دون انضباط علمي؟" هذا بالضبط ما يدعون إليه و غاية أملهم ليتحلل كل من ما يريد التحلل منه و تصير فوضي يضيع فيها الإسلام.
aboahmedmansour
الخميس، 13-04-2017 01:44 ص
نحن تقريبا أصابنا مرض المهاجمين للاسلام والادعاء بان الاسلام دين الارهاب حتي طلع معتوه أزهري مثل الهلالي وادعي ما ادعاه نسأل الله ان يجعله عبرة لغيره ..اما نحن كأننا قد نصاب بما أصاب هؤلاء بالعموم والتعميم اولا لو حسبنا التنوريين والمتطرفين كم عددهم ؟؟!! وكم عدد المسلمين في العالم ؟؟!!كيف تربط صفة من الصفات يعمل بها هذه النسبه التي لا تعرف ان تحسبها او تقرأها لضئالتها الي الغالبية ااوترمي بها الاغلبية !!!1فقولكم تنقص الشريعة بفعل او قول او جهل فئة من الفئات كلام غير صحيح لهذا السبب الذي ذكرت ولسبب آخر قاله الله تعالي لرسوله صلي الله وسلم (.اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) فالرجاء عدم التهويل والتوين وشكرا
سامر
الأربعاء، 12-04-2017 11:51 م
شكرا على الرد أستاذ شريف، بعد ردك، أعتقد أن نقطة خلافنا الوحيدة هي حول المفكر جمال البنا رحمه الله، وقد يكون السبب أنك لم تقرأ كتبه مباشرة، وإنما كونت حكمك من مقتطفات نشرت عنه.
شريف
الأربعاء، 12-04-2017 02:48 ص
لا أقصد حرمان أحد من الاجتهاد أو التفسير ولكن لا بد من وجود ضوابط لهما، ووضعه مع الدغيدي ليس تسوية بينهما بقدر ما هو طرح مثال عمن يسمون تنويريين فذكرت أمثال عصفور والسعداوي في الوسط الثقافي والدغيدي في الفني والبنا في أوساط الإسلاميين، ولكني أختلف مع حضرتك في وصفه. أما المذاهب الأربعة فهي ابنة زمانها ولا تزال تتجدد، وهناك مذهبيون يجددون وفقا لأحوال الناس في كل عصر من العصور، وفتح باب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه لمن يملك القدرة عليه وامتلك أدواته.
سامر
الأربعاء، 12-04-2017 12:28 ص
لدي عدة ملاحظات على هذا المقال: 1- ليس كل من ادعى التنوير تنويري، فالتنوير لا يمكن أن يتماشى مع دعم الاستبداد. 2- وضع جمال البنا في قائمة واحدة مع الدغيدي، إساءة كبيرة، وهو مفكر إسلامي تنويري بحق ولا يحق لك أن تحرمه حقهفي الاجتهاد أو التفسير. 3- "ما كان معتمَدا في أحد المذاهب الأربعة" المذاهب الأربعة ابنة زمانها، وحتى في زمانها كان هناك فقهاء لم يلتزموا بها، وأن الأوان لفتح باب الاجتهاد على مصراعيه.