قضايا وآراء

في الرهان على المستقبل

1300x600
 كانت الصدمة كبيرة في اعقاب انقلاب النظم العربية على الثورة العربية الكبرى الحديثة وقد حدث بالفعل ارتجاج بالمخ العربي ، وحاولت الأنظمة العربية إيهامنا بأن ما حدث هو نزيف حاد قد يودي بحياة الأمة بأسرها وأن مضاعفات الربيع العربي أخطر من أن تعالج ، زعموا ذلك وروجوا له وقالوا  إن الخريف أفضل مليون مرة من الربيع ولكن ما الذي حدث على أرض الواقع ؟.

اكتشف الجميع أن الخريف العربي المستمر لعقود والذي حاولت الشعوب استبداله بربيع يحيل المنطقة من صحراء قاحلة إلى خضراء مزهرة ، هذا الخريف لم ينتج لنا شيئا سوى الخراب والدمار والعفن السياسي والتخلف العلمي والاستبداد وانتهاك كرامة الإنسان أي إنسان بغض النظر عن لونه و معتقده و عرقه رغم أننا كلنا عرب.

ورغم أن الحقيقة لا تخطئها عين سليمة لكن قادة المنطقة ومن ورائهم المستعمر الذي لم يتخل عن حلمه في نهب الثروات ، استمرا في تشويه الثورة العربية، بل والزعم بأن حالة الصدمة التي حدثت بعد الانقلاب قد أثرت فعليا على الصحة العقلية والنفسية للشعوب العربية وأن ما جرى لم يكن ارتجاج بل نزيف حاد بالمخ قد يستغرق علاجه عقود، والحقيقة أن هذا نوع من السيطرة على الأدمغة بعد أن استفاقت الشعوب مبكرة من حالة الارتجاج واستوعبت في اربع سنوات حقيقة الانقلابات، من يديرها ومن يمولها ومن المستفيد من وقوعها.

راهن كثيرون على غيبوبة طويلة الأمد قد تنتهي بموت سريري يتمنى فيه أهل المريض موته فلا يدركونه.
 
والحقيقة أن الشعوب العربية كانت عند التوقعات فقد تحملت الشعوب فوق طاقتها ، فملايين المهاجرين حملوا أجسادهم وابناءهم وقليل من متاعهم إن تبقى لهم متاع وهاجروا ، منهم من مات على الطرقات أوفي أعماق البحار أو عند نقاط العبور برصاص حرس الحدود لدول غربية زعمت ولا تزال تزعم أنها حامية للديمقراطية وراعية لحقوق الانسان . تحملت الشعوب الضريبة دما تارة وسجونا تارة ، وتغريبا وتعذيبا تارة ، وتشريدا ومطاردة ومصادرة أموال تارة ، وبقيت بعد كل ما جرى على العهد بالثورة.

الأخبار السيئة عادة ما تسبق الأخبار الجيدة ، والحرب الإعلامية محورها يقوم على ترسيخ الأخبار السيئة عند الطرف الآخر واغفال الأخبار الجيدة عنه ، فالصدمة التي تلقاها الربيع العربي قد تلتها أخبار جيدة متمثلة في رفض الشعوب العربية الاستسلام لتلك النظم ، ورفضها القبول بفكرة نهاية الصراع لصالح الانقلابيين سواء في سوريا أو ليبيا أو مصر واليمن ولا حتى بعض دول الخليج العربي رغم محاولات السلطات اخضاع الشعوب بالإغرار تارة وبالإغواء تارة كما حاولت بالقوة والقهر عدة مرات.

 الأخبار الجيدة هي أن الثورة العربية الكبرى الحديثة لم تصب بنزيف في المخ كما يروج أطباء الحكم وفلاسفته المزورون، ولا كما يشيع إعلامهم الموتور من الشعوب التي احتقرت هذا الاعلام وانصرفت عنه وأدركت أنه المسيخ الدجال في أسوأ صورة ممكنة له، وأن كل ما أصابها ارتجاج مؤقت ستزول أعراضه بمرور الوقت.
بعض مؤيدي الانقلابات ونظم الحكم المستبدة في عالمنا العربي يحاول ايهام الشعوب أن ما حدث معها أمر طبيعي وأن الشعوب لا قبل لها بقوة السلطة ولا بمكر السلاطين وهذا لعمري ادعاء شديد التهافت والسقوط فليس هناك في التاريخ ما يؤكد هيمنة الباطل وسيادته وارتفاعه فوق الحق وإن ارتقعت رايات الباطل (اعلاميا) فهذا لا يعني أبدا غياب رايات الحق بل ربما يكون هذا مكر المخرجين و المصورين الذين يجيدون التقاط الصور من زوايا توحي بعكس الحقيقة.

حين تشاهد مسؤولا عربيا يجتمع مع خمسين أو مائة من أنصاره وتسمع أحدهم يقول له " مصر كلها معاك يا ريس " أو يقول آخر لحاكم بلاده " كلنا رهن الإشارة يا طويل العمر " عليك أن تسأل نفسك من هم هؤلاء وكيف سمح هؤلاء النفر الخمسين أو المائة  لأنفسهم أن يتحدثوا باسم شعوب بالملايين أو أمة بالمليارات.

في حالة الصراع كهذه التي نعيشها دائما ما أركن وأميل وأعود إلى السيرة النبوية العطرة  وتحضرني قصة غزوة الأحزاب أو الخندق وأتوقف طويلا عند صراع الإرادات المتمثل في قوة ظاهرة تسيطر على الموقف وقوة كامنة يتم استدعاؤها في اللحظة المناسبة لتلتهم القوة الظاهرة وتحيلها إلى العدم وكأن قريشا وحلفاءها ليسوا في المشهد أو الصورة  تماما.

جاء في كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري لأحمد بن حجر العسقلاني وفي باب المغازي أن المسلمين وهم يحفرون الخندق عرضت لهم صخرة صلبة فماذا كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هذا جزء من الرواية أنقله لك كما جاء في الكتاب " لما كان حين أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفر الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول ، فاشتكينا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فجاء فأخذ المعول فقال : بسم الله . فضرب ضربة فكسر ثلثها ، وقال : الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة . ثم ضرب الثانية فقطع الثلث الآخر فقال : الله أكبر ، أعطيت مفاتيح فارس ، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض . ثم ضرب الثالثة وقال : بسم الله ; فقطع بقية الحجر فقال : الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة ".

الرهان على المستقبل الذي تبصره الشعوب وتعمى عنه عيون المستبدين وأفئدتهم هو الطريق نحو النصر ، فالحكام يريدوننا غرقى في الماضي ودائما ما يذكروننا بضعفنا وقلة الحيلة ، المستبدون بارعون في تسويق أنفسهم على أنهم القوة والبطش والحقيقة أنهم إن صحت نوايانا وقمنا باسترداد وعينا لن يطول بهم المقام كما لم يطل المقام بالأحزاب بعد أن أعاد النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين وعيهم مع ضربات معوله في الصخرة واستشرافه للمستقبل على النحو الذي نقلته كتب السيرة والحديث عن غزوة الأحزاب .

الرهان على المستقبل هو الحل .

موقعة الأزهر

02-May-17 07:51 PM