قضايا وآراء

قراءة في عملية آل جبارين بالقدس

1300x600
بداية لا بد من الترحم على أرواح شهداء العملية الأخيرة من آل جبارين في القدس المحتلة وتثمين تضحياتهم وبطولاتهم، والتأكيد حتى بدون أي نقاش أو تفاصيل على حق المقاومة المكفول للشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وعمله المنهجي لسلب حرية الفلسطينيين وحقوقهم الأساسية في التنقل والتملك والتعبد وممارسة شعائرهم الدينية بحرية دون أي تدخل أو وصاية من قبل سلطات الاحتلال.

هذا مبدئيا أو منهجيا، أما في قراءة الحيثيات والتداعيات السياسية للعملية، فيجب الانتباه إلى أنها نفذت من قبل ثلاثة شبان من آل جبارين من مدينة أم الفحم في الأراضي المحتلة عام 48، وبالتأكيد نحن أمام تكريس أو تأكيد لوحدة الشعب الفلسطيني شعب الجبارين السياسية الجغرافية على جانبي الخط الأخضر، لكننا أيضا أمام رد من شباب في مقتبل العمر وبطريقتهم على التمييز الممارس بحقهم، واعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية، وقمع حريتهم في العمل والنشاط السياسي والحزبي والدعوى، وقبل ذلك وبعده ردا على منعهم من ممارسة حقهم في التعبد والاعتكاف في المسجد الأقصى، كما على ممارسات المستوطنين المتنفذين وسلطتهم الحاكمة التهويدية في الحرم القدسي الشريف والأراضي الفلسطينية بشكل عام.

في السياق السياسي الفلسطيني العام أيضا، نحن أمام عملية فردية، أو عملية أفراد تخطيطاً إعداداً تنفيذاً، وهي تعبر بالتأكيد عن الروح الجهادية العالية للشعب الفلسطيني، وعجز الاحتلال عن كسرها أو النيل منها، لكنها من جهة أخرى تعبر أيضاً عن غياب المؤسساتية أو العمل المقاوم المنظم، في بعده العسكري واقتصاره منذ سنوات، خاصة في الضفة الغربية على العمل الفردي أو عمل الأفراد، ورغم أن هذا يراكم الصعوبات أمام الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في مواجتهه وقمعه، إلا أنه يجعل من الصعوبة بمكان استمراره أو تواصله ضمن عمل فلسطيني عام ومنظم ميدانياً وسياسيا أيضا.

أما فيما يتعلق بردود الأفعال والتداعيات، فيمكن الحديث عن ثلاث دوائر وساحات أساسية إسرائيلية فلسطينية وعربية إسلامية.

بدت القيادة الإسرائيلية في ردود فعلها مستلبة تماماً لفكرة وذهنية، إن ما لم يحل بالقوة يحل بالمزيد منها، فهي استغلت العملية للتحريض على أهلنا في الأراضي المحتلة عام 48، ولم تتوقف أمام نتائج سياساتها فيما يتعلق بمنع الحركة الإسلامية وإخراجها عن القانون، أو فيما يتعلق بالتضييق على حرية العبادة الصلاة والاعتكاف بالحرم أو دعمها الواضح والعلني للمستوطنين في سعيهم لهدم الحرم، وإقامة الهيكل المزعوم مكانه، وحتى عدم إخفاء النية المبيتة في إجراء التقسيم الزماني والمكاني في الحرم، كما هو معمول في الحرم الابراهيمي الشريف، والسعي المستمر والدوؤب لتغيير الوضع الراهن السائد منذ النكبة الثانية في العام 1948.

القيادة الإسرائيلية سعت كذلك إلى أحداث، وحتى تأجيج الفتنة في صفوف الفلسطينيين بالأراضي المحتلة عام 48 كون المنفذين الشهداء من المسلمين السنّة، والقتلى من المسلمين الدروز، ممن قبلوا على أنفسهم عار الخدمة بجيش الاحتلال، ورغم الأصوات المتصاعدة المنادية بإنهاء هذا الأمر والعمل على ذلك في جوّ الحوار، والعمل السلمي الهادئ، إلا أن هؤلاء لم يقتلوا لأنهم دروز، ولكن كونهم ممثلين أو أدوات في آلة الاحتلال القمعية، وغير الشرعية. وهنا يمكن المراهنة مرة أخرى على وعي وحكمة أهلنا في الأراضي المحتلة عام 48، وتوقع مواصلة نجاحهم في إفشال المخططات الإسرائيلية لتميزهم دينيا طائفيا، وليس على أساس الهوية القومية الثقافية الجامعة.

إلى ذلك سعت القيادة الإسرائيلية إلى الاستفادة لأقصى درجة من العملية لشيطنة المقاومة وعزلها عن سياقها التاريخي والقومي، ومحاولة وصمها كلها بالإرهاب أو الداعشية، واستعطاف الرأي العام الدولي، غير أن كونهم أي القتلى جنود في منطقة محتلة حسب القانون الدولي نال من الرواية الإسرائيلية وأفرغها من محتواها إلى حد كبير ناهيك طبعا عن المممارسات التهويدية والاستيطانية فى القدس والضفة الغربية بشكل عام.

غير أن أسوأ ما في التداعيات الإسرائيلية للعملية تمثل باستغلال حكومة نتن ياهو لها لتنفيذ ما عجزت عن فعله في العام الماضي، أي تغيير الوضع الراهن والتحكم أو السيطرة مباشرة على المسجد الأقصى والحرم القدسي الشريف، وإقصاء الأوقاف الإسلامية عبر التحكم بحركة الدخول والخروج عبر تركيب بوابات إلكترونية، وفرض أمر واقع جديد على طريق إجراء التقسيم الزماني للحرم وصولاً إلى هدمه تماما بعد ذلك إذا سمحت الظروف.

في السياق الإسرائيلي كانت لافتة كذلك توصية الشرطة والأجهزة للحكومة الاسرائلية للتهدئة ولمنع الأمور من الذهاب إلى مزيد من التصعيد، والخشية من اندلاع انتفاضة ثالثة عارمة مع تصاعد الاحتقان والغضب الفلسطيني في القدس الضفة والأراضي المحتلة عام 48، وهي عمدت إلى التوصية بتفكيك البوابات الإلكترونية والتفاهم مع الأوقاف والأردن والعودة إلى الوضع السابق والإقلاع ولو مرحلياً عن فكرة تغييره أو رغبة المتطرفين الحاكمين في تقسيم الحرم، وحتى هدمه فيما بعد.

في السياق الفلسطيني جاءت ردود الفعل الرسمية خجولة أو عادية في أحسن الأحوال وتركزت على التحذير من الممارسات الإسرائيلية غير الشرعية، والسيطرة على الحرم وتأجيج الأجواء المحتقنة، ما قد يخرج الأمور عن السيطرة، وهي استغلت الرغبة الإقليمية والدولية بعدم التصعيد أو انفجار الأوضاع في فلسطين في ظل التوتر وعدم الاستقرار الإقليمي، إلا أن القيادة  الفلسطينية وللأسف لا تملك خطط أو سياسات واضحة لمنع اسرائيل من المضى فى مشاريعها وتبدو غير مستعدة كذلك لإعطاء الشعب الفلسطينى في الضفة حق وحرية التعبير عن مشاعرهم ودعم ومساندة إخوانهم في القدس المحتلة.

ردود الفعل الفلسطينية، وهذه المرة من قبل السلطة وحركات المقاومة في غزة أكدت من دون أن تقصد  طبعا حقيقة الواقع الفلسطيني المأزوم العاجز المنقسم، فمن عجز عن رفع حصار غزة نفسها بالصواريخ لن يفعل ذلك تجاه القدس، وغزة نفسها تبدو عاجزة عن إنقاذ أو نصرة نفسها والقوة المتراكمة لديها تبدو ردعية أو دفاعية وفي سياق محلي ولا يمكن مواجهة التصعيد الإسرائيلي المتمثل بالتهويد والاستيطان، إلا عبر معركة استنزاف يومية متواصلة - لا مكان للصواريخ فيها - تستند أساساً إلى المقاومة الشعبية الجماهيرية، كما هو حاصل فعلا الآن في القدس نفسها ومناطق وبؤر الاستيطان الساخنة في الضفة الغربية.

شخصيا لم أستغرب ردود الفعل العربية الإسلامية الشعبية، وحتى الرسمية بقدر ما استغربت المطالبات المنفصمة والمنفصلة عن الواقع بتوجيه البنادق نحو فلسطين، الشعوب العربية عندما انتفضت وثارت مطالبة بحقها بما يطال به الفلسطينيون، ووجهت بالصواريخ والبراميل المتفجرة، وحتى السلاح الكيماوي، ومن يملك منهم بندقية للدفاع عن نفسه لا يمكنه توجيهها نحو إسرائيل ببساطة لأن الأنظمة الساقطة التي حمت الحدود والدولة العبرية جعلت استقرارها جزء من استقرار الدولة العبرية، كما قال ذات مرة رامي مخلوف عضو العائلة أو العصابة الحاكمة في الشام.

لم يكن مفاجئا أقله بالنسبة لي أن تتسع دائرة التعاطف والتأييد للمقدسيين، حيثما اتسعت دائرة الحرية والديموقراطية، فأنظمة القمع أنظمة الفلول والثورات المضادة لا تسمح بأي من مظاهر التاييد أو التعاطف مع القضية الفلسطينية، بينما رأينا ردود فعل أفضل نسبيا في الأردن والكويت وأفضل وأقوى بكثير في تركيا وحتى من قبل الجاليات العربية والاسلامية في الدول الأوروبية الديمقراطية. 

عموما فإن المراهنة كانت وما زالت على المقدسيين أنفسهم ومعهم شيخ الأقصى الشيخ المجاهد رائد صلاح وإخوانه ورفاقه وأهله في الأراضي المحتلة عام 49 وطبعا أهلنا في الضفة الغربية المحتلة، هم وحدهم من منعوا في الماضي تغيير الوضع القائم في الحرم القدسي الشريف، هم وحدهم من منعوا التقسيم الزماني والمكاني له، وإقامة الهيكل المزعوم مكانه، وهم وحدهم من سيمنعون ذلك في المستقبل بإذن الله.