مقالات مختارة

عالم الفلسطينيين الداخلي

1300x600
في إنجلترا، في شقة بالطابق الثالث قبالة "كنغز كوليج"، إحدى كليّات جامعة كيمبردج، مركز للتأمل "meditation"، يقوم على الانسحاب من العالم المادي المحيط، إلى العالم الداخلي للإنسان، إلى الروح. وفي مرّة حاول المدرب أن يقرّب للمشاركين الجالسين على الأرض، ما يعتقد أنّهم يفعلونه، ويعطيهم الطاقة والحافز، فقال: دائما نكتشف الجديد، تخيل الحديقة، لو حفرت قليلا ستجد دودة الأرض، ولها عوالم نجهلها، وتخيل عوالمك الداخلية، وتربتك الخاصة، وما فيها. 

غير بعيد عن هذا المركز، مقهى "نيرو" الذي سمعت من زملاء كيمبردج، أنّه بمثابة المكتب الثاني لياسر سليمان، مدير معهد الدراسات الإسلامية، في الجامعة، الباحث المرموق في علم اجتماع اللغة والهوية. وكما يوضح سليمان، فإن تحرير جزء كبير من كتابه الأخير جرى في المقهى، حيث كان يلتقي من عملوا معه عليه. وعمليا فإنّ الكتاب الصادر بالإنجليزية بعنوان "أن تكون فلسطينيا، انعكاسات شخصية على الهوية الفلسطينية في الشتات"، هو أشبه بما كان مدرب التأمل، يدعو لفعله؛ للانفصال 
عن الذات المادية من مذكرات ومواقف سياسية، إلى العالم الداخلي، وانعكاسات أن تكون فلسطينا. 

شارك في الكتاب 103 مشاركين، من الفلسطينيين، غالبيتهم أكاديميون ومثقفون وناشطون. 
كان نجاح عملية التجرّد هذه نسبيا، فلا يمكن أن تتجرد من ظروف وتجارب الحياة التي تصنع المشاعر والعوالم الداخلية. 

قطع ياسر نحو 1.5 مليون ميل عبر طيران "البريتيش إيرويز" وحده، خلال عشر سنوات، ما يجعله خبيرا بالحدود والمطارات وما يحدث للفلسطيني أثناءها، بما في ذلك حَمَلة جنسيات أجنبية. ويقول إنّه في مطارات غير عربية عندما ينظر موظف الحدود لمكان الولادة ويجدها القدس، يسأله "هل أنت إسرائيلي؟"، والمفاجأة أنّ ذات الشيء تكرر في مطارات عربية، رغم أنّ الاسم يجب أن يقدم الإجابة لموظف الحدود العربي. ويقدم مشاركون في الكتاب ما أفرزته مطارات العالم؛ القلق أن تُسأل من أين أنت؟ أن يتم الخلط فيمن تكون؟ 

يقول سليمان إن مادة الكتابات تختلف، ولكنها تنتج حالة عاطفية متشابهة، كأنّه يقول كل الطرق تؤدي إلى الشتات. والشتات diaspora كلمة خلافية، أزعجت بعض المشاركين، وأرادوا كلمة مثل المنفى، أو dispersal، وتعني الشتات أيضا، ولكن ربما تعني الوصول درجة التشظي. 

تتكرر الحالات العاطفية، لمعنى "فلسطيني"، لأشخاص حققوا نجاحات أكاديمية وشخصية؛ فاستمرار الانتقال، حتى وإنْ كان من نجاح لآخر، فيه ألم الاقتلاع. يختار سليمان في مقدمة الكتاب تعبير أحد المشاركين "أنا حجر فلسطيني يتدحرج بحثا عن مكان للاستقرار". آخر: "أن أكون فلسطينيا يعني أن أتعلم منذ الطفولة أن تهوي المطرقة عليّ وأنا فوق السنديان، أستيقظ مع التشرد، وأنام مع الحرمان". 
اختلطت عوالمهم بالطعام الفلسطيني؛ كنافة ولبنة، ومجدرة، وزعتر، وشجر عطري؛ برتقال وليمون، وكثير من الأمور، لكن ما استوقف سليمان هو "الدبكة"، بما تعنيه من شعور بالجماعة والانتماء، والفخر والقوة، بالصوت والحركة والصورة، خصوصا مع الثوب المطرز. 

يستعيد الشاب مع الدبكة ما أخبره به أهله، وحتى ما نسوه. ياسر ذاته لا ينسى فلسطينه؛ أبوه إبراهيم، يبدو أنّه كان وسيما، ولد العام 1889، في القدس، أحب فتاة مسيحية من بيت لحم، فغضب أهلها وهددوه وهو المسلم، فلجأ لعائلة مسيحية أخرى في رام الله، أمّنت له إثبات شخصية باسم آخر، وأمنت له عملا عند يهودي فلسطيني، في طبرية، اعتقد أنه يمكن أن يتزوج ابنته، ولكنه تهرّب، أصبح ثريّا، وتزوج فتاة أتت لاجئة مع أهلها من دمشق، بعد أن قتل الاحتلال الفرنسي ابنهم الوحيد. 
وعندما سأل ياسر والده هل رفض زواج الفتاة لأنها يهودية، أجاب مستهجنا، بالتأكيد لا. ولكن لماذا أتزوج الفتاة الأقل جمالا في طبريا؟ هذه حياة العيش المشترك التي يحلم بها عالم سليمان الداخلي. 

يحب ياسر وعائلته إسكتلندا، خصوصا إدنبرة، حيث كان ياسر في جامعتها لسنوات طويلة، وهي الجامعة التي قادها وزير خارجية بريطانيا السابق آرثر بلفور لسنوات. ولكن أمّه لم تسامحه يوما، أن يكون في إسكتلندا. وانفجر غضبها العام 1993 عندما أخذها لزيارة بيت بلفور ذاته، فدعت الله، ودعت أن يرفع ياسر لإرضاء روح والده، علم فلسطين يوما فوق البيت، في تعبير غامض عن الاستياء مما فعله صاحبه.

الغد الأردنية