قضايا وآراء

حدود ثقة إيران بأوروبا في مواجهة ترامب

1300x600

دخلت العلاقات الإيرانية الأوروبية بعد انتصار ثورة 1979، وخروج إيران من بوتقة الغرب في مرحلة اللا- استقرار، استمرت على مدى العقود الأربعة الماضية على هذا المنوال، دون أن تستقر على شكل محدد، ورغم تحسنات طرأت في فترات، لا سيما في عهد الرئاسات الإصلاحية لإيران، إلا أن العلاقات كانت بعيدة عن انفراجة حقيقية طيلة هذه العقود.

خضعت تلك العلاقات لعدة محددات متداخلة طوال هذه السنوات المديدة، أهمها، أولا: استمرار حالة الصراع بين إيران والغرب بشكل عام، بعد انتهاء عهد التحالف أو بالأحرى التبعية، ثانيا: الأزمات المتواصلة والمتقطعة مع الدول الأوروبية مجتمعة أو منفردة.

 

وخاصة مع القوى الأوروبية الثلاث، بريطانيا (أزمة سلمان رشدي مثلا) وألمانيا (قضايا ميكونوس مثلا)، وفرنسا (عقدة آخر رئيس وزراء العهد الملكي شاهبور بختيار مثلا). ثالثا: المحدد الإسرائيلي الذي يلعب دورا مهما في السياسات الشرق أوسطية للاتحاد الأوروبي، رابعا: وهو ربما يكون الأهم، المحدد الأمريكي، حيث أن أوروبا كانت أول محطة وصلتها شظايا قطع العلاقات بين واشنطن وطهران.

المحدد الأخير هو الطاغي على مجمل العلاقات بين إيران وأوروبا، والأخيرة لم تتحرر منه بعد، ولعبت منذ عام 1979 دورا مكملا للدور الأمريكي ضد طهران، بحكم العلاقات التحالفية الوطيدة بين العواصم الأوروبية مع الولايات المتحدة، وكذلك بقاء العداء بين طهران والغرب على حاله، رغم انفراجات طفيفة هنا وهناك في بعض الفترات.

إيران أيضا على دراية بدور المؤثر الأمريكي في رسم علاقات أوروبا معها، عكسها تصريح للرئيس روحاني، أبان حملته الانتخابية لولايته الأولى، عند تناوله المفاوضات النووية بعد مضي أكثر من عقد عليها دون تحقيق نتيجة تذكر. قال روحاني حينئذ، إن التفاوض مع أمريكا أسهل من أوروبا، لأن الأولى سيد الثانية، وتملك قرارها، فربما أراد القول إن الصفقة تنجز مع السيد وليس التابعين.

وقوله "أمريكا مختار القرية، والتفاهم مع المختار أسهل" كان في محله وموضوعيا، فلولا وجود إرادة لدى الرئيس الامريكي باراك أوباما، ما كان ينجز الاتفاق النووي في 2015، حتى لو أرادته أوروبا برمتها.

اليوم، خلافات الأوروبيين مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في قضايا ثنائية ودولية عديدة، منها الموقف من الاتفاق النووي مع إيران، لا تعني بالضرورة أن أوروبا أصبحت بعيدة عن المؤثر الأمريكي في سياساتها الخارجية، أقله مع طهران. لأنها خلافات مع شخص ترامب، وتوجهاته، وليست مع المؤسسة الأمريكية.

المعارضة الأوروبية الشديدة لسياسة الرئيس ترامب تجاه إيران في الوقت الحاضر، تقتصر على الاتفاق النووي، وأنها لا تنسحب على قضايا أخرى مثل البرنامج الصاروخي، والنفوذ الإقليمي، وقضايا حقوق الإنسان والحريات، فمن الواضح وجود توافق كبير في الرؤى بين الجانبين حولها، وإن اختلفت الحلول المقترحة وطرق المعالجة أحيانا.

حتى وفي ما يتصل بالاتفاقية النووية، لا يمكن الجزم بأن أوروبا ستصمد إلى نهاية المطاف في معارضتها العداء الترامبي للإتفاقية، خاصة حال تبنى الكونغرس الأمريكي أيضا العداء نفسه، بشكل أو آخر في قراراته المرتقبة خلال الشهرين القادمين، بعد أن أحال الرئيس الأمريكي إليه الملف في 13 من أكتوبر الماضي.

منذ أن وقعت المجموعة الدولية (5+1) هذه الاتفاقية مع إيران، المخاوف والهواجس تطارد أوروبا بمستثمريها ومصارفها من قرارات أو إجراءات أمريكية مستقبلية محتملة، حالت دون الانفتاح التجاري والمصرفي على إيران، كما كان متوقعا بعد التوقيع على الاتفاق، عليه، ليس صعباً التكهن بالموقف الأوروبي مقبلا، إذا ما ألغت واشنطن هذا الاتفاق فعلا، وأعادت العقوبات على إيران، والتي ستطال أيضا كل دولة لا تلتزم بها.

حينئذ، الكلمة الأخيرة ستكون للمصالح، ويستبعد جدا أن يضحي الاتحاد الأوروبي بمصالحه المتشابكة متعددة الأبعاد مع واشنطن، منها الاقتصادية التي تتجاوز ترليون دولار، مقابل ملياري دولار، حجم تبادلها التجاري مع طهران.

ثم أن المصالح الأمنية والعسكرية المشتركة لا تقل أهمية عن المصالح الاقتصادية، فالاتحاد الأوروبي سيظل الأحوج إلى الدعم الأمريكي في مواجهة خطر الدب الروسي على حدودها الشرقية. خلاصة القول إن الاتحاد الأوروبي اليوم مكبل بمصالح استراتيجية مع شريكه التجاري الأكبر في العالم، من الصعب الفكاك منها.

لا يخامرنا شك، أن إيران تمثل سوقا مغريا للأوروبيين، وأنهم بعد الاتفاق النووي تفاؤلوا خيرا، وعلقوا عليه آمالا كبيرة كمفتاح للولوج إلى هذا السوق، لكن سرعان ما خيبت العراقيل الأمريكية المتلاحقة تلك الآمال إلى حد كبير بعيد التوقيع على الاتفاق إلى اليوم، مواجهتها تكلّف القارة العجوز كثيرا، وأقصى ما يمكن أن يحصل لو صمدت أوروبا في معارضتها في هذا الصدد، أن يبقي الولايات المتحدة الأمريكية على الاتفاق النووي شكلا، بعد أن فرغته من مضمونه، مقابل تعاون أوروبي وثيق في بقية الملفات في مواجهة إيران.

المفارقة أن الرئيس روحاني يراهن اليوم على موقف "الرعية" الأوروبين في الوقوف ضد "المختار" أو "الراعي" الأمريكي وعزله دوليا، للحفاظ على أهم مكتسب حكومته على مدار السنوات الخمس الماضية، أي الاتفاق النووي الذي أحدث شرخة في الموقف الأمريكي الأوروبي الموحد تجاه طهران في الوقت الراهن، لكن الأمور بخواتمها، والجعجعة التي نسمعها من الطاحونة الأوروبية هذه الأيام، قد لا نرى بعدها طحينا.

من جهة أخرى، فلا مكان لهذا الرهان عند قائد الثورة، الذي ينظر إلى الدور الأوروبي بريبة كبيرة، وهو الأدرى بين المسؤولين الإيرانيين بطبيعة العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا، وسياساتهما، إذ حذر الأوروبيين قبل أيام من التماشي مع الغطرسة الأمريكية ضد إيران في قضايا مثل قدرات إيران العسكرية ونفوذها الإقليمي، بعد وصفه الموقف الأوروبي المعارض لتوجه ترامب ضد الاتفاق النووي بجيد غير كاف.

الخلاصة أن أوروبا رغم كونها قوة عالمية لا يمكن الاستهانة بها في المعادلات الإقليمية والدولية، مازالت سياستها الخارجية تجاه إيران، محكومة بعوامل كثيرة على رأسها العلاقات التحالفية مع كل من الولايات المتحدة و"إسرائيل"، مما يضيق مساحة اعتماد إيران عليها والثقة بها في مواجهة سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب واستراتيجيته الجديدة، وليس مجافيا للعقل التحليلي، القول إن أوروبا بالنسبة لطهران اليوم كالقابض على الماء، ليس في يدها شيء كبير، يمكن الرهان عليه.