كتاب عربي 21

اختلال المقاربة العسكرية للحرب على الإرهاب

1300x600

على مدى عقود، شكك معظم الخبراء بجدوى الاقتصار على المقاربات العسكرية والأمنية في مواجهة الظاهرة الإرهابية، ذلك أن ظاهرة "الإرهاب" تستند إلى أسباب وشروط وظروف موضوعية سياسية واقتصادية واجتماعية مركبة ومعقدة، وتعتمد في تشكلاتها وتمثلاتها على بنى إيديولوجية وثقافية شائعة. وقد برهنت المقاربة العسكرية لـ"الحرب على الإرهاب" التي تبنتها الولايات المتحدة الأمريكية، عقب هجمات تنظيم القاعدة على نيويورك وواشنطن في 11 أيلول/ سبتمبر 2001، قصورها في تحقيق هدفها المعلن بالقضاء على تنظيم القاعدة والحركات الجهادية المساندة.

تكشفت المقاربة العسكرية والأمنية عن خلل فادح وفاشل ذريع، إذ لم تسفر الحملات العسكرية عن حرمان الإرهابيين المفترضين من ملاذاتهم الآمنة، ولا أسفرت عن حصارهم وتجفيف مصادر تمويلهم، ولا أدت إلى تدمير إيديولوجيتهم الخطابية، ولا تمكنت من تقوض دعايتهم الإعلامية الالكترونية. فالحملة العسكرية الدولية على طالبان والقاعدة في أفغانستان 2001 انتهت عقب أكثر من أربعة عشر عاما إلى نتائج متواضعة، إذ لا تزال حركة طالبان وحلفائها من التنظيمات الجهادية وتنظيم القاعدة يتمتعون بملاذات آمنة، وتبدو الحكومة الأفغانية عاجزة عن وقف تمدد وانتشار طالبان، وفي العراق لم تسفر جهود الاحتلال الأمريكي 2003 عن دحر الإرهاب المفترض لتنظيم القاعدة، بل ساهم الاحتلال بولادة جديدة للقاعدة، وتطور الجهادية العالمية من خلال بروز تنظيم "الدولة الإسلامية"، وسيطرته على مساحات واسعة. وعلى الرغم من انحساره جغرافيا وخسارته للمدن وعودته لحروب العصابات، إلا أن عودته ممكنة مع بقاء الظروف الموضوعية والإصرار على المقاربة العسكرية.

 

تكشفت المقاربة العسكرية والأمنية عن خلل فادح وفاشل ذريع

 

قصور مقاربة الحرب على الإرهاب العسكرية الأمنية تبدو واضحة، ففي الوقت الذي تمكنت فيه الولايات المتحدة من إضعاف منظمة القاعدة المركزية في باكستان وأفغانستان بصورة كبيرة، وتمكنت من قتل زعيم القاعدة أسامة بن لادن، ومعظم القيادات الهامة أمثال: أبو اليزيد المصري، وأبو حفص المصري، وأبو الليث الليبي، وأبو يحيى الليبي، وعطية عبد الرحمن، ونجحت باصطياد رؤوس قيادات كبيرة للفروع الإقليمية، أمثال: أبو مصعب الزرقاوي ،زعيم الفرع العراقي، وأبو بصير الوحيشي، زعيم قاعدة جزيرة العرب، ونائبه سفيان الشهري، والمنظر اليمني أنور العولقي، ومختار أبو الزبير، زعيم الفرع الصومالي حركة الشباب المجاهدين، وغيرهم، وتمكنت من اعتقال قيادات عديدة، أمثال: خالد شيخ محمد، ورمزي بن شيبة، وأبو زبيدة، وأبو الفرج الليبي، وسليمان أبو غيث، وأبو أنس الليبي، وغيرهم، وقد أودعو في معتقل "غوانتانامو"، إلا أن هذه النجاحات تبدو محدودة. فقد شهدت الجهادية العالمية تطورا، وتمكنت من توسيع نطاق تجنيدها، وتطوير هياكلها، واستطاعت الصمود والتمدد والانتشار.

سياسات الحرب على الإرهاب العسكرية الأمنية؛ ساهمت بولادة جيل جهادي جديد أشد خطورة، وأكثر انتشارا مما كانت عليه منذ أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، وأصبحت تتوافر على ملاذات في أماكن عديدة، في العراق وسوريا وليبيا والصومال واليمن وسيناء وأفغانستان، وجنوب شرق آسيا، ووسط آسيا وشمال القوقاز، ودول جنوب الصحراء والساحل. وشهدت الجهادية انشطارا إلى نهجين خطرين، أحدهما يتمسك بأجندة القاعدة التقليدية بزعامة أيمن الظواهري، والنهج الآخر يقوده الفرع العراقي المعروف بـ"الدولة الإسلامية" بزعامة أبو بكر البغدادي، كما أن الإيديولوجة الخطابية الجهادية أصبحت أكثر جاذبية.

 

سياسات الحرب على الإرهاب العسكرية الأمنية؛ ساهمت بولادة جيل جهادي جديد أشد خطورة، وأكثر انتشارا مما كانت عليه منذ أحداث 11 أيلول/ سبتمبر

هيمنت المقاربة العسكرية على منظورات مكافحة الإرهاب بصورة مرعبة، وهي مقاربة تستند إلى استخدام القوة وإضفاء الشرعية عليها، ودعم التحرك الأحادي الجانب من أولئك القادرين عليه، وإحلال عقيدة الدفاع الوقائي الاستباقي محل مبدأ الردع والاحتواء، بينما سادت قبل أحداث سبتمبر المقاربات القانونية في التعامل مع ظاهرة الإرهاب، وهي مقاربة تؤكد على أهمية فهم الأسباب الجذرية للإرهاب، حيث يصبح الخيار العسكري ملاذا أخيرا، وبهذا تسيّد جهود مكافحة الإرهاب نموذجين؛ وهما نموذج العدالة الجنائية، ونموذج الحرب. ويتفق النموذجان في اعتمادهما على احتكار الدولة لاستخدام العنف، حيث تتحمل الشرطة المسؤولية الرئيسية في نموذج العدالة الجنائية بمشاركة من المحاكم والسجون، ويتحمل الجيش المسؤولية الرئيسية في نموذج الحرب.

تتضمن قواعد الاشتباك في تطبيق نموذج العدالة الجنائية على استخدام أدنى حد من القوة، بعكس نموذج الحرب، الذي يطبق القوة في حدها الأقصى. ويتسم كلا النموذجين بحدود صارمة لمن يمكن أن يخضع لعنف الدولة، وهو ما يضفي الشرعية على ممارساتها. ورغم أهمية مقاربة العدالة الجنائية، فإنها تتسم بالبطء وضعف الفاعلية. وأما نموذج الحرب؛ فرغم فاعليته وسرعته وملاءمته بالتعامل مع نمط التهديدات الجديدة، كالشبكات الإرهابية اللا مركزية التي تستند إلى دوافع إيديولوجية ولا تردعها العدالة الجنائية التقليدية، إلا أنها تنطوي على مخاطرة شديدة بظهور عواقب من شأنها استفحال أعمال العنف، وتقويض شرعية الأنظمة الحاكمة التي تلجأ إليه، ودفعها لسلوكيات مناهضة لمبادئ الديمقراطية، بالإضافة إلى خلق بيئة يستثمرها منظرو الحركات الجهادية الموصوفة بكونها "إرهابية" في عمليات التجنيد والاستقطاب.

 

عدم تبني تعريف محدد لـ"الإرهاب" ساهم في خلق حالة من التشوش الدلالي وفقدان المصداقية

لا يقتصر خلل حرب الإرهاب على نموذج الحرب والعدالة الجنائية، بل إن عدم تبني تعريف محدد لـ"الإرهاب" ساهم في خلق حالة من التشوش الدلالي وفقدان المصداقية، بحيث أصبح مصطلح "الإرهاب" سلاحا تستخدمه سلطة الدولة الإمبريالية والديكتاتورية في مواجهة الأعداء المفترضين والخصوم السياسيين. فمصطلح الإرهاب بات يستخدم من قبل الأطراف المتصارعة لأهداف سياسية، وتحول إلى مفهوم ذاتي غير موضوعي.

تبنت معظم الدول في العالم نهجا تجريميا متشددا في مواجهة التهديدات المحتملة، طبقا لسياسات "الملاحقة والمحاكمة" الشاملة للجميع دون تمييز. ففي معظم أنحاء أوروبا الغربية، أدخلت الحكومات تشريعاتٍ تتعلق بالإرهاب أكثر قمعاً، وذلك لمواجهة التطرف، والتعامل مع التهديد المحتمل الذي تشكله عودة المقاتلين الأجانب. وتشمل هذه التشريعات تعزيز صلاحيات النيابة العامة، وتوسيع نطاق تدابير تسليم الأفراد إلى بلدانهم الأصلية، وإلغاء وثائق السفر، وزيادة صلاحيات الاستخبارات للمراقبة، إلى جانب تجريم السفر إلى مناطق النزاع الخارجية.

وشملت التدابير المعتمدة حديثاً في المملكة المتحدة وهولندا وألمانيا والنمسا وفرنسا، وأماكن أخرى، التعامل مع المقاتلين الأجانب كقضيةٍ أمنية، سواء في ما يتعلق بالمغادرة إلى الخارج أو العودة. وتضمنت الإجراءات حظر الجماعات والمنظمات التي يشتبه بكونها تساعد في تسهيل تجنيد المقاتلين، كما توسعت فعالية المراقبة الالكترنية الأمنية لوسائل الاتصال. لكن الاستراتيجيات القمعية يمكنها أن توقف عمليات الإرهابيين، بحسب تشارلز لستر، إلا أنها قد تفضي إلى حركة عكسية؛ بتغذيتها للحنق، وخلق مظالم جديدة، وتسهيل الاستقطاب إلى قضايا جديدة أو قضايا أعيد إنعاشها، بالإضافة إلى ما نتج عن الحرب على الإرهاب من تآكل حكم القانون والحريات المدنية للمواطنين وثقتهم بالحكومة.

في العالم العربي؛ باتت مسألة الحرب على "الإرهاب" كارثية وسوريالية، حيث قامت معظم الدول بتعديل قوانين "الإرهاب"، إذ أصبحت أكثر تجريما بالتعامل مع المقاتلين العائدين، وأصبح مصطلح "الإرهاب" يشمل حركات وجماعات سياسية، بل وأصدرت بعض الدول قوائم للجماعات الإرهابية تضمنت مجموعة كبيرة غير مصنفة كحركات إرهابية، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين. ففي مصر، صنفت جماعة الإخوان المسلمين كحركة إرهابية في 25 كانون أول/ ديسمبر 2013، كما قامت السعودية بضم الجماعة إلى قائمة المنظمات الإرهابية في 7 آذار/ مارس 2014، ثم تبعتها الإمارات العربية المتحدة في 15 تشرين ثاني/ نوفمبر 2014، بوضع الجماعة على قائمة التنظيمات الإرهابية.

خلاصة القول؛ أن تعثر المقاربات العسكرية والأمنية في الحرب على الإرهاب لا يحتاج إلى تبصر عميق ونظر دقيق. فقد باتت القاعدة والجهادية العالمية تتصدر المشهد في بلدان عديدة، كما أن إيديولوجيتها الخطابية أصبحت أكثر جاذبية. فالاعتماد على المقاربة الأمنية العسكرية الصلبة، وإهمال الأسباب والشروط والظروف الموضوعية التي أنتجت الظاهرة الجهادية، وغياب الحلول السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أدى إلى نتائج منطقية كارثية. وعلى الرغم من وجود شبه إجماع على أن الفساد والاستبداد وغياب العدالة والإنصاف هي الروافع الأساسية لتمرد البشر والنزوع العنيف والتلبس بالإرهاب، إلا أن سياسات "الحرب على الإرهاب" العالمية المستنسخة محليا وإقليميا؛ لا زالت تصر على علاج الأعراض واعتبار العنف "الإرهابوي" اعتباطيا عبثيا عدميا.