قضايا وآراء

القُدسُ بوابةُ الصفقةِ الكُبرى

1300x600

سيكون من غير الحكمة النظر إلى قرار الرئيس "ترامب"، بالاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، والعزم على نقل سفارة بلاده إليها، على أنه خطوة منفصلة عن سياقها العام الإقليمي والدولي.. الشاهد على ذلك أن الكونغرس الأمريكي سبق له التصويت على هذا الاعتراف عام 1995، وهو الواقع الذي بدأت إسرائيل في فرضه في الميدان منذ 1980. ومنذ هذا التاريخ والقرار معلق إلى أجل لاحق، إلى أن وصل رئيس منتخب، وصفه قسم كبير من أهله والمصوتين عليه بالرئيس "الأبله"، ولم تشهد أمريكا نظيراً له، فوعد بتنفيذه، وقبل إنهاء سنة من أداء القسم الرئاسي، قام بالإعلان الرسمي عنه.

نُذكّر بهذا للقول بأن ثمة سياقاً مُحفزا على الإقدام على هذه الخطوة أكثر من السابق. فمجمل الرؤساء الأمريكيين فكروا في هذا الاعتراف والنقل، جهرا أو بشكل علني، لكن قلما تجرأ احدهم على الانتقال من التفكير والتلويح إلى التنفيذ، وبالقوة التي عبر عنها "دونالد ترامب". قد يكون مزاج "ترامب" مختلفا عن سابقيه (وفي كل الأحوال ليس أكثر بكثير من مزاج "جورج بوش الابن")، غير أن ما توفر لـ" ترامب" لم يتيسر لغيره، ولأن ذلك تحقق له دون سواه، فقد أطلق لمزاجه العنان للتصريح بكل شيء، والإقدام على كل شيء دون تردد أو وَجل. أما السياق وحيثياته، فهو أن ثمة رؤيةً يتسارع تشكيل قَسماتها بشكل دؤوب ومنتظم، قوامُها إغلاق ملف القضية الفلسطينية، بحسبها قضية عربية وإسلامية بامتياز، وبوصفها مقياسَ درجة حرارة الجسم العربي وأمنه الإقليمي.

 

ما هو باطن في هذه الرؤية أكثر مما هو ظاهر، وما "خفي أعظم"، كما يُقال

لا يجهل القارئ الكريم والمتابع اللبيب للشأن العربي، والقضية الفلسطينية على وجه التحديد، أن ما هو باطن في هذه الرؤية أكثر مما هو ظاهر، وما "خفي أعظم"، كما يُقال. بيد أن مما تناثر من الباطن هنا وهناك، وما خرج إلى الظاهر، يمكن استخراج وتركيب ما يُساعدنا على فهم جوهر هذه الرؤية، التي يتسارع تشكيلها في المنطقة، ويُراد تحويلها إلى واقع جديد لا صلة له بالصورة التي دأبت عليها الشعوب والمجتمعات العربية من قبل. فالعنوان الأبرز للرؤية الجديدة هو حصراً التطبيع مع إسرائيل، وإنهاء التوتر معها، والسعي إلى الاقتراب منها والتعاون معها، وتحويل العلاقة معها إلى شراكة فعلية ودائمة..أما الدافع إلى ذلك، فهو جملة من التقديرات السياسية، التي لا تنم عن وجود تفكير عقلاني، متّزن، وبعيد المدى، وموازن للمصالح المشتركة، من لدن صناع هذه الرؤية من العرب، وغيرهم من الأجانب.

ظل التقرّب من إسرائيل مـتأرجحاً بين السرية والعَلنية، وحتى في لحظات الإقدام على الحديث عن التفاوض من أجل إيجاد حل للقضية الفلسطينية، لم تجرؤ مجمل الدول العربية على الحديث عن التطبيع، إلا وكان هذا الأخير مندرجا ضمن خطة شاملة، تحافظ على الحدّ الأدنى من المطالب الفلسطينية والعربية، كما حدث لخطة السلام العربية منذ ثمانينيات القرن الماضي، ووصولاً إلى ما بعد الحرب على لبنان (2006)، والحرب على غزة (2008)، حيث اشترطت المبادرة العربية اعترافاً بحدود ما قبل 4 حزيران/ يونيو 1967، والقدس الشرقية عاصمة أبدية للفلسطينيين، والإزالة الكاملة للمستوطنات.. وهو ما يعني القبول بوجود دولتين قابلتين للعيش والتعايش. وقد شكل هذا وقتئذ حدثاً نوعيا بالنسبة للإسرائيليين في تاريخ مقاومة الفلسطينيين لاحتلالهم، والتصدي لعمليات استيطانهم.. أما اليوم، فيبدو أن هذه العناصر غير واضحة، بما يكفي، في الرؤية الجديدة التي يزحف صناعها إلى الإعلان عنها، وتسويقها بدون تردد.

 

نرى في الإعلان عن القدس عاصمة لإسرائيل؛ مقدمة لهذه الرؤية، وبوابة لـ"صفقة كبرى" تنتظر المنطقة العربية


 لذلك، نرى في الإعلان عن القدس عاصمة لإسرائيل؛ مقدمة لهذه الرؤية، وبوابة لـ"صفقة كبرى" تنتظر المنطقة العربية. دليلنا في ذلك، ما يمكن استنتاجه من قرار "ترامب" نفسه، وفي ضوء السياق الذي جاء فيه. فقرار "ترامب" وضع حدّاً للصراع مع إسرائيل، بوصفه صراعاً بين هذه الأخيرة والفلسطينيين وليس صراعاً مع كيانها المُغتصب للأرض وكافة العالم العربي الإسلامي. يُضاف إلى ذلك، أن قراره لم يتوقف عند اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، بل حَسبها عاصِمة لليهود، وفي هذا إقرار واضح بيهودية القدس ويهودية إسرائيل.. والقرار تالياً خرق سافر لكل القرارات الدولية، بما فيها قرارات مجلس الأمن، وفي ذلك استهانة وإهانة للشرعية الدولية. والأدهى أن القرار أجهز على عمليات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي ظلت بلاده راعيتها والمشرفة والموجهة لها منذ عقود، كما وضع حدّاً لمثيلاتها من المبادرات العربية.. وبذلك يمكن الجزم بأن "دونالد ترامب" اعتمد مبدأ "الطاولة الجرداء" (Table ras) في موضوع القضية الفلسطينية، ويسعى إلى تدشين تاريخ جديد للمنطقة العربية، وقضيتها الأولى فلسطين وعاصمتها القدس.

 

ليس أمام الشعوب العربية سوى اللجوء إلى كل الوسائل لإفشال "الصفقة الكبرى"


فما العمل إذن؟ ليس أمام الشعوب العربية سوى اللجوء إلى كل الوسائل لإفشال "الصفقة الكبرى".. فتاريخ القدس، وتاريخ المنطقة العربية، يمدنا بما لا يترك مجالاً للشك بأن في الإمكان فعل الكثير، وفي المستطاع، وإن طال الزمن، استرداد أرصدة القوة، واستئناف السير.. ستكون، بالتأكيد، سيرورة شاقة ومُضنية، وفيها كبوات، وحتى لحظات ضيق وفشل، لكن ستُفضي في المحصلة إلى المحافظة على ما يجب المحافظة عليه كسقف أدنى.. أما غير ذلك، فسيتأكد قول الشاعر "أدونيس" أن "العرب بصدد الخروج من التاريخ"، إن لم يكونوا قد خرجوا فعلا.