قضايا وآراء

الانتقال الديمقراطي.. حلم مجهض أم وهم تبدد!

1300x600
لم يكن من العبث أن يبدأ جون جاك روسو فصله عن الديمقراطية، في كتابه العقد الاجتماعي، بالعبارة التالية: "إن الذي يسن القانون أدرى من أي شخص سواه بالكيفية التي بها ينفذ القانون ويؤوله. والبادي إذن أن لا سبيل لنا إلى أفضل الدساتير إلا بدستور يقرن بين السلطة التنفيذية والتشريعية. ولكن هذه الحالة بعينها هي ما يجعل الحكومة لا تفي بالمطلوب من جهات معينة، وسبب ذلك أن ما كان من الأمور واجبا تمييز بعضه عن بعض؛ ليس كذلك، وأنه لما لم يكن الأمير وصاحب السيادة إلا عين الشخص الواحد، فإنهما لا يؤلفان، إن جاز القول، إلا حكومة بلا حكومة". ثم يقول: "وهكذا، ليس من الصالح أن من يسن القوانين هو من يتولى تنفيذها، ولا أن يحيد جسم الشعب بانتباهه عن المقاصد العامة ليصوبها نحو الموضوعات الجزئية. ليس هناك من شيء أدعى للخطر ممن تأثير المصالح الخاصة في الشؤون العمومية؛ فإن شطط الحكومة في استخدام القوانين شر أهون من فساد المشرع، وهو فساد يعقب المقاصد الجزئية، لا مناص منه، إذاك، وقد أصابت الكدورة الدولة في جوهرها وصار كل إصلاح أمرا محالا".

لقد كان صاحب العقد الاجتماعي واعيا بحجم الفساد المطلق في الحكم المطلق، ولا أدل على ذلك من واقعنا الذي يعيش توالي عمليات الإجهاض لكل محاولة تخصيب للديقراطية في هذا الاجتماع البشري، جعلنا نعيش كل صنوف التخلف والهبوط الاجتماعي في نظام سياسي قائم على ازدواجية عجيبة. إذ يعيش في آن واحد زمانين تاريخيين بنسقهما السياسي المشكل للنسق السياسي المغربي المتفرد بين الأنساق الإقليمية الأخرى، حيث يعيش في نفس الوقت برأسين: رأس ديني ينتمي إلى العصور الوسطى، ورأس حديث يمكن أن نجد له مكانا بيننا على علله الكثيرة!

وبين هذا وذاك، عاش ويعيش شباب العشرية الثانية من الألفية الثالثة في المغرب خيبة أمل أخرى في مجال التداولي، وهم ينتظرون انتقالا ديمقراطيا حقيقيا، يجسد حلقاته قيادة الحزب الإسلامي للحكومة في المغرب. والحقّ، يجب أن نقول إن ما عاشه الشباب المغاربة -بتعليق آمالهم بالتغيير من خلال مشاركة حزب إسلامي "نظيف اليد" في حكومة - لم يكن إلا وهما لذيذا عشناه جميعا دون أن نلتفت إلى المعوقات الحقيقية للتغيير الشامل الذي نطمح له.

وهذا ما يشير إليه الباحث المغربي عبد الله العروي الذي يؤرخ للدولة المغربية الحديثة مع مطلع القرن العشرين؛ بالقول: "يبدأ المغرب الحديث في القرن العشرين، إذ أنه إذا كانت معرفته قد أصبحت مبهمة بـ"الآخر" القريب جدا"، حيث أنه بهذا القول يجعلنا نتساءل ما إذا كان المغرب يعيش في غيبوبة تاريخية قبل هذه الفترة؟ فأين تتجلى هذه الغيبوبة حقيقة؟ 

في كتاب "الشيخ والمريد"، لعبد الله الحمودي، يسلط هذا الباحث الأنثروبولوجي المغربي؛ الضوء على النسق الثقافي للسلطة بالمغرب، وهي مؤسسة "دار المُلك"، والتي ظل يُنظر إليها طيلة مدة طويلة من زاوية المقدس الذي يحرم الخوض فيه، أو جزء من الطابوهات الكثيرة التي ظل المغرب الحديث يتميز بها، وحتى الذين تجاوزوا العتبة وحاولوا الحديث في الموضوع وانتقاده؛ لم ينهجوا غير نهج التقليدانية أيضا!

ينطلق عبد الله حمودي من سؤال جوهري مؤداه كيف نفسر موقف أغلبية شعبية خاضعة للحرمان، تبدو راضية رغم ذلك؟ فمن المؤكد أنه لم يكن القمع وحده من تمخض عنه هذا الحال، وأن هناك أسبابا أخرى تفاعلت لتنتج هذه العلة القبيحة على مر الزمان.. فالقمع يمكن أن تُضاف إليه معتقدات أخرى (النسق الثقافي للسلطة) ترسخت مع مرور الزمن، كالسعي الدائم وراء التقرب من السلطة للظفر بالنعم، ولاعتبار الروحانية التي تسم المركز الموزع لهذه السلطة، والتي يمكن ربطها بما جاء في كتاب سيكولوجيا الإنسان المقهور لمصطفى حجازي، والتي يتحدث فيه صاحبه عن ميل المقهور للتماهي مع المتسلط، فهي تصبر على الحرمان أملا في تحسن خارق لأوضاعها، رغم خيبات الأمل التي ظلت تجترها منذ الأمد البعيد، كما يقول الحمودي..

ومن خلال صورة الخضوع والخنوع، يشير مؤلف "الشيخ والمريد" إلى ثورات وانتفاضات الخبز التي تنتاب الفئات المحرومة (الرعية) المرتبطة نعمتها بدار الملك، التي تظهر بين الحين والآخر على شكل مظاهرات أو انتفاضات تواجه بالقمع والسجن والدم والأمثلة لا حصر لها عبر تاريخ السلطة في المغرب، قبل الحماية الفرنسية وبعدها، ذلك أن دار المُلك يتجلى هدفها الأساسي في الحفاظ على ذاتها وكيانها، كهمٍّ أساسي فوق كل اعتبار. وهنا يتجلى لنا مركزية فكرة الغلبة في النسق الثقافي للسلطة في المغرب والعالم العربي أيضا، حيث أن السلطة التي قامت على مشروعية التغلب في البداية بدل شرعية التعاقد، كان لزاما عليها أن تستمر في فرض تغلبها من أجل أن يستمر تواجدها! فيقتضي الأمر، لزاما لذلك، الضرب بقسوة على يد كل مناوش أو معارض لهذه المؤسسة المبهمة معالمها ومحدداتها، حيث يتلبسها كثير من الغموض واللبس، فيصعب على المحلل التمييز بين مفاهيمها الكثيرة. يقول الحمودي: "دار المُلك إلى المخزن إلى الدولة إلى دار الخلافة إلى إمارة المؤمنين إلى أب الأمة".

كما يضاف إلى هذه الأمور معضلة تعدد الشرعيات التقليدية، شرعية الدم وشرعية الدين بالإضافة للغلبة التي تحدثنا عنها أعلاه وشرعية التاريخ. فالدولة المغربية - إن جاز لنا أن نسميها مغربية - هي حكم أسرة تستمد شرعيتها من دمها الموصول بالنبي، ودين هذا النبي الذي جعلته من نفسها ناطقة رسمية باسمه ومحتكرة لتنظيمه. وهذا يجعلنا أما ازدواجية مرجعية حتى على مستوى التشريع، فالدستور نفسه يكرس ثنائية المرجعية: البيعة من جهة، والقوانين الدستورية من جهة أخرى، كما أن بعض دساتير العهد الجديد أيضا لم تنفي إمكانية أن يشَرِّعَ الملك خارج الأحكام الدستورية من خلال الظهائر.. بالإضافة إلى أن مؤسسة دار المُلك تستثمر، دائما، تاريخ أسلافها كونها من الشرفاء وتنحدر من آل البيت، وقد ظل المراجع الفقهية عبر تاريخ المغرب يزكون عملية البيعة، ويجعلون منها الدرع الحامي للإسلام، وبالتالي شرعنة قرارات وتوجيهات ومواقف وسياسة دار المُلك من خلالها. بالإضافة إلى أنه من خلال البيعة المنظمة كل سنة، تطلع دار الملك بصياغة الإجماع حولها، إجماع الرعية على الطاعة والولاء لأمير المؤمنين، إذ مهما بلغت درجات الاختلال والخلاف، لن ترقى لدرجة التراجع عن البيعة وقدسيتها.

وفي مقابل هذا النسق الثقافي تقف الديمقراطية على طرف النقيض منه، حيث تقوم على شرطها الثقافي الأساسي الذي لا يمكن أن يقوم صرحها إلا بتوفره وحصوله، فلا يمكن للديمقراطية من أن تستنبت إلا في تربة مدنية محايدة بعيدة عن تدخل الدين فيها، كما لا يمكنها أن تعيش بعيدة عن أكسجين التعاقد الاجتماعي، حيث تتساوى فيه الحقوق والواجبات بين جميع أفراد المجتمع بغض النظر عن الاختلافات الأيديولوجية والاقتصادية والدينية، فتتحقق بذلك صفة المواطنة على المنتميين إلى الوطن، وقبل هذا كله تحقيق قيمة الحرية كمبدأ عام وشامل.. فكيف التحقق بهذا الوضع الثقافي إن لم نحدث قطيعة حقيقية مع هذا الوضع؟ وكيف السبيل إلى هذه القطيعة مع نخب سياسية وثقافية محافظة، وأحزاب سياسية تفتقر إلى مشروع سياسي حقيقي تجعل من الهدف السياسي واضحا أمامنا وعمليا، بدلا من سرديات مائعة مللنا من ترديدها - لا ترقى لتكون مشروعا سياسيا - (الانتقال الديمقراطي؛ الجبهة المواجهة للاستبداد؛ الإصلاح في ظل الاستقرار- الكتلة الوطنية..)؟ لندع هذا، ولنقل بكل ثقة؛ أنه لا أمل لنا في التغيير الحقيقي ما دمنا نعيش في ظل نظام سياسي سائل لم يحدد طبيعته الحقيقية، جعل لنفسه شرعيات مفارقة للطبيعة الإنسانية يواجه بها الإنسان المعارض له ويجعله في هامش الانتماء لهذا المجال..

التغيير الحقيقي إذن؛ هو إحداث القطيعة الحقيقية وتحملها ونتائجها وتداعياتها لا غير.