قضايا وآراء

معارك إدلب بين الدروس المستفادة ومصالح الدول

1300x600
لا تنفصلُ المعاركُ الدّائرة في محافظة إدلبَ عن معارك ريف حلب الجنوبي، ومعارك شرق حماة، فضلاً عن معارك الغوطة الشّرقيّة؛ إذ تندرج جميعُها - رغم خصوصيّة ما يجري في إدلب - ضمن قرار النّظام الاستراتيجي بتصفية الثّورة السّورية عسكرياً، سواء عبر السّيطرة العسكريّة المباشرة، أو الحصار، أو حصر المعارضة في كانتونات ضيقة وإجبارها على مصالحات استسلام.

ويثبت الواقع المُعاش أنّ النظام السّوري لا يُؤمن برؤية أخرى. وأمام عجزه عن تطبيق خياره الاستراتيجي منفرداً، استعانَ بالإيرانيين والرّوس، ليصبح لاحقاً أسيراً للدبّ الرّوسي الذي يفكّر بعقليّة النّظام السّوري في تهميش المعارضين وسحقهم. فالفهم الحقيقي للمعارك الجارية في إدلب يتطلبُ منّا معرفةَ حقيقةِ الأهدافِ الرّوسيّة من إشعال النّار في مناطق أرادت موسكو نفسُها جعلها "مناطق خفض تصعيد وتوتر"، عبر أستانا. ونستبعد هنا أيّ دورٍ للداخل الرّوسي في التّصعيد العسكري، سواءً فيما يتعلق بالانتخابات الرّئاسيّة الرّوسيّة أو الوضع الاقتصادي الرّوسي، فالرّوس يفكّرون بطريقة مشابهة للنظامين السّوري والإيراني، والرّئيس الرّوسي يخوض الانتخابات دون أدنى منافسة، ولا يكترث برفاهية المواطن الاقتصادية. فالهدف من التّصعيد الرّوسي وإشعال معارك إدلب؛ يندرج ضمن أهداف أخرى؛ منها:

- إجبار ما تبقى من معارضة وطنيّة على حضور مؤتمر سوتشي "الحوار الوطني" إلى جانب النّظام، أو التزام الحياد غير المُعطل لمخرجات مؤتمر سوتشي لاحقاً لا لتجميل صورة الرّئيس الرّوسي بوتين كما يروِّجُ بعض المحللين. فالهدف الرّوسي الحقيقي من المؤتمر؛ تكريس سلطة منظومة الاستبداد المرتبطة مع روسيا باتفاقيات نعلم بعضها، ونجهل بعضها. فالرّوس عبر تدخلهم العسكري يهدفون لتحقيق مصالح بلادهم الاستراتيجيّة، بعيداً عن كل الادعاءات التي يعلم الجميع كذبها ولسنا بحاجة لسردها، إذ تحولت سوريا لمستعمرة روسيّة.

- تحييد هيئة تحرير الشام بدايةً، ثمّ تصفيتها من الخارطة العسكرية في سوريا، واتّخاذها ذريعة للسيطرة وتصفية الثّورة السّورية برمتها، تماماً كما فعلت مع تنظيم الدّولة. إذ أحرقت مدينة حلب الشرقية، واستباحت الريف الشمالي، بدعوى محاربة داعش، رغم عدم وجود أي عنصر داعشي، وهي اليوم تُدمِّرُ البنيّة التحتيّة، وتستهدف الثوار والمدنيّين بذريعة محاربة هيئة تحرير الشام.

- توجيه رسالة مبطّنة لتركيا بأنَّ روسيا وحدها من يملك مفاتيح الحلّ، وأنّها مستعدة لتجاهل اتفاقات أستانة وغير أستانة إذا اقتضت الضّرورة ذلك، ناهيك عن محاولات روسيا لإبعاد تركيا - ما أمكن - عن الولايات المتحدة.

- إيصال رسالة عمليّة للولايات المتحدة بأنّ روسيا باتت المتحكم الأول في سوريا. فالولايات المتحدة انتقدت صراحة على لسان مساعد وزير خارجيتها لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد ساترفيلد، مساعي موسكو لعقد مؤتمر سوتشي وإبعاد مسار جنيف، وهذا ما يفسّر اتّهامات روسيا المبطنة للولايات المتحدة بالوقوف وراء قصف مطار حميميم بطائرات مسيرة دون طيّار.

إنّ الأهداف الرّوسية الظّاهرة والخفيّة ليست قضاءً لا مفرّ منه، فيمكن نسف هذه الأهداف وتجاوزها أو الالتفاف عليها في الحد الأدنى. فمعارك الكرّ والفرّ جنوب إدلب أفرزت معطيات وحقائق ينبغي الارتكاز عليها لبناء المرحلة القادمة، والوقوف في وجه المشروع الروسي، فبدا واضحاً أنّ تقدم النّظام الأخير استند لسياسة الأرض المحروقة، وتشرذم المعارضة العسكرية في الدّاخل لفصائل وتنظيمات وألوية وكتائب رغم مرور سبع سنوات. ومن هنا نجد ثمة عوامل داخليّة وخارجيّة بإمكانها قلب الطّاولة على رأس الروس؛ منها: - حلّ الفصائل العسكريّة نفسها والاندماج في جسم عسكري واحد يرفع ويَتبَنَّى المطالبَ الأولى للثورة السّورية، وبذلك نُحيّد الثّورة السّورية عن الأيديولوجيات المتطرّفة والمصالح الفصائليّة الضّيّقة، ونعرّي المتربصين بالثورة الراغبين بجرّها لسراديب مظلمة، ونسحب الذّريعة الرّئيسة للروس والنّظام في حربهم على السوريين.

- اتّخاذ زمام المبادرة في فتح الجبهات. فقد أظهرت معارك إدلب والغوطة، بشكل واضح، ضعف العنصر البشري في صفوف قوّات النّظام، كمّاً وكيفاً. فالنّظام يتقدم ويسيطر عقب حرق الأرض بمن فيها، بينما يستردّ الثّوار ما خسروه بالاقتحامات وبزمن قياسي، وبالتّالي فإنّ الاندماج يساعد على فتح أكثر من جبهة، واتّخاذ زمام المبادرة، وبذلك يتغلب الثّوار على نقطة تفوق النظام المتعلقة بسياسة الأرض المحروقة.

- خلافاً لما بات يعتقده كثيرون، فإنّ الظّروف المحيطة بالمعارك أثبتت أنّ تركيا ما زالت في مرتبة الشّريك، ولم تتحول لتابع، وبيدها خيارات كثيرة جداً تحرج بها الروس، أبسطها تسليح الثّوار. ويُدرك الأتراك أنّ اتفاق خفض، ولا سيما في إدلب، كان فخّاً تجاوزه الأتراك. فقد أُريد توريط تركيا بمعارك مع الفصائل العسكري، وفي مقدمتها هيئة تحرير الشام، واستطاعت تجاوز هذا المطب، لتُتهم لاحقاً بالتنسيق مع تنظيمات إرهابية (هيئة تحرير الشام).

- تدرك تركيا أنّ خسارة إدلب تعني خسارتها لكل الشّمال السّوري، وبالتالي خسارتها لحربها على الإرهاب، وفي المقدمة خسارة الحرب مع التنظيمات الانفصاليّة الكرديّة، وهذا ما يفسّر غضب تركيا من خرق اتفاق خفض التّصعيد.

وما عقّد الوضع أكثر، عزم التّحالف الدّولي بقيادة الولايات المتحدة تشكيل قوة حدودية من 30 ألف فرد. فالخطوة الأمريكية رسالة عمليّة واضحة للروس بأن ينتبهوا لقواعد اللعبة، وتقلق هذه الخطوة تركيا بقدر ما تريحها في إدلب، إذ جعلت الرّوس أكثر حاجة لتركيا، وأعادتهم خطوة للوراء، وربما تدفع روسيا لوقف معارك إدلب، وعبّر وزير خارجيّة روسيا لافروف عن ذلك التّوجه بأمله أن تنهي تركيا نشر نقاط مراقبة حول منطقة خفض التصعيد بإدلب.

فهل يستفيد الثّوار والأتراك من درس إدلب ويبنون عليه، وينتقلون من مرحلة ردّة الفعل إلى الفعل؟ هذا ما ستكشفه الأيام.