قضايا وآراء

الغوطة جرح أمة "كانت خير أمة أخرجت للناس!"

1300x600
ما يحدث في سوريا منذ اندلاع الثورة عام 2011 حتى اليوم، من مذابح وجرائم يرتكبها النظام البعثي الفاشي بحق شعبه، يندى له الجبين، ويصفع الضمير الإنساني في مقتل..

مشاهد القتل والدمار والخراب التي تنقل من الغوطة، والصور التي تتكلم دون أن تنطق، وتسمع فيها بكاء الرُضع الذين هالهم فظاعة وإجرام هذا العالم الذي فتحت عيناهم عليه فآثروا مغادرته، حيث لا أمان في هذا العالم الوحشي.. وصراخ الأمهات الثكالى اللاتي يضمن أكفان أطفالهن بين ضلوعهن، وصياح الرجال المكلومين أمام جثث أولادهم الذين يخرجونهم من تحت أنقاض بيوتهم وقد تعفرت وجوههم وثيابهم بغبار القهر؛ قبل أن يعفرها غبار المباني التي قصفتها الطائرات الروسية المحملة بالصواريخ والقنابل.. أنين وآهات مَن لا يزالون أحياء تحت الأنقاض وهم يطلبون الإغاثة، وصراخ الناجين وهم يرون ألسنة النيران تملأ سماءهم، وسحب الدخان تغطي المكان وكل ما حولهم دمار وخراب!

مشاهد تقشعر لها الأبدان ويشيب لها الولدان، لم يشهد العالم مثلها من قبل مع أعتى النظم الفاشية والدموية على مر العصور، ومع ذلك غاب الضمير العالمي عنها، وغابت الغوطة كما غابت أخواتها حلب ومضايا ودير الزور وإدلب من قبل؛ عن ذلك المجتمع الدولي المنافق الذي يكيل بمكيالين، فنراه كيف يهب ويثور، وتقوم الدنيا ولا تقعد لحادث إرهابي فردي كما حدث في مجلة شارلي إيبدو التي هرع حكام العرب ومشايخهم ونخبهم لإدانته قبل غيرهم، ولكنهم صمتوا صمت القبور أمام إرهاب دولة يبيد شعبا بأكمله.

وقبل أن ألوم الغرب الذي يشاهد كل ما يحدث لحظة بلحظة ولم يحرك ساكنا، لا بد أن نُجرم كل الحكام العرب الذين دعموا السفاح بشار الأسد وأيدوه في مذابحه ضد السوريين، سواء في العلن أو في الخفاء من وراء ستار أو بصمتهم المريب وتخاذلهم، وكأنهم جميعا قد أعطوا له الضوء الأخضر كي يكمل مهمته ويستمر في ذبح الشعب السوري وتدمير ما تبقى من سوريا الحبيبة، عاصمة الخلافة الإسلامية.. الكل مشترك في الجريمة، القاتل والمتآمر والمتخاذل سواء عندي!

كنا مخطئين حينما اعتقدنا أن نكبة فلسطين والمذابح التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في حق الفلسطينيين، وطوابير المهاجرين التي نراها في الصور ما كانت لتحدث لو وجدت وسائل النقل المرئي والتواصل المتوفرة اليوم.. فها هو العالم يرى بأم عينيه دماء الأطفال تسيل كالأنهار في شوارع الغوطة، ويسمع صراخ الأمهات الثكالى ونداءات الإغاثة من المكلومين ولا يهتز له جفن، وتحول المشهد لقاتل فعلي ومتفرج، ربما في أحسن الظن لا يبالي، إن لم يكن مستمتعا بما يراه من قتل ودمار! منتهى الخسة والعار.

إن الغوطة شاهدة على إجرام هذا العالم أجمع وازدواجية المعايير التي تحكمه. فعندما تتعلق القضية بالعرب والمسلمين فلا بواكي لهم ولا نصير لقضاياهم، ولكن عندما تكون القضية خاصة بالكيان الصهيوني يسارع الكل ويتسابق للوقوف معه ولنصرته بالباطل على حساب الحق الفلسطيني، ولهذا لم أفاجأ بقرار مجلس الأمن الهزيل الذي خضع للفيتو الروسي، كما كل القرارات التي تخص فلسطين تخضع للفيتو الأمريكي. فمنذ متى أنصفنا مجلس الأمن لننتظر منه نصرة الشعب السوري، خاصة أن قاتله يملك حق الفيتو في قراراته! وهل كان أهل الغوطة ينتظرون نُصرتهم منه بعد أن خذلتهم الأنظمة العربية العميلة والمتواطئة مع قاتلهم؟! حتى ذلك القرار الهزيل الذي صدر عن مجلس الأمن، وإعطاء هدنة فورية لمدة 30 يوما بين الأطراف المتقاتلة في الغوطة الشرقية (أي أنه ساوى بين النظام القاتل وبين الثوار المدافعين عن الأهالي) فقبل أن يجف حبره هاجمت مليشيات النظام بقواتها البرية وبغطاء جوي المنطقة، وحاولت اقتحامها لتغيير موازين القوى على الأرض لصالحها. وحدثت اشتباكات بينها وبين الثوار سقط فيها قتلى وجرحى.

لا تستطيع أن تفصل ما يحدث في الغوطة الشرقية عما حدث في سوريا، منذ اندلاع الثورة في آذار/ مارس 2011 من محافظة درعا، والمجازر التي ارتكبها النظام البعثي فيها، ثم انتقالها لباقي المحافظات السورية لتعم سوريا ككل، فهي حلقة في مسار ثورة شعب ثار فيها ضد الظلم والاستبداد والفساد ومطالبا بالحرية؛ بدأت سلمية وكادت تسقط النظام لولا تدخل المليشيات الشيعية التابعة لإيران، المتمثلة في مليشيا حزب الله اللبناني والمليشيات العراقية والأفغانية. وحينما تبين لهم صعوبة القضاء على الثورة، نزلت إيران بثقلها من خلال قوات الحرس الثوري، وظهر قاسم سليماني في أرض المعركة، وارتكبوا العديد من المجازر والجرائم في حق الشعب السوري، مما اضطره لحمل السلاح للدفاع عن نفسه ضد هؤلاء المجرمين وضد هذا النظام الدموي؛ الذي يقتله تارة بالسلاح الكيماوي وتارة أخرى بالبراميل المتفجرة.

ومع ذلك لم يستطع النظام أن يحسم المعركة لصالحه، فطلب النجدة من روسيا التي وجدت الفرصة للعودة للشرق الأوسط من جديد من خلال البوابة السورية، وأن يكون لها موقع قدم على البحر المتوسط. واستطاعت الطائرات الروسية المقاتلة وأسلحتها الحديثة أن تغير دفة القتال لصالح النظام؛ الذي أصبح صورة أو واجهة لبلد محتل من قِبل روسيا وإيران، وأصبح رئيس النظام كخيال المآتة لا يملك من أمره شيئا ولا يملك قراره!!

على الجانب الآخر من الثوار (كما أحب أن أطلق عليهم وليس قوى المعارضة المسلحة كما أصبح متداولا في الإعلام للأسف)، تعددت هذه القوى الثورية وتعددت معها الدول الداعمة لها وارتبطت بها بشكل أو بآخر وأصبحت تابعة لها. ففي يدها المنح والمنع، ولم تعد صاحبة القرار، بل أصبح القرار في يد الدول الداعمة، لهذا رأينا انتصارات تتوقف عند نقطة معينة ولا يكتمل القتال لتحرير باقي المناطق على الرغم من السيطرة الكاملة للثوار على أرض المعركة! ورأينا انسحابات مفاجئة من مناطق دون مقدمات توحي لذلك! كما أن أجهزة الاستخبارات السورية استطاعت اختراقها، بل وصنعت فصائل أخرى على عينها، كما فعلت أجهزة استخبارات دولية عديدة ذاك الشيء ذاته، هذا بخلاف تنظيم داعش الذي كانت مهمته محاربة الثوار الحقيقيين وإخراجهم من المناطق التي يسيطرون عليها لتسليمها بعد ذلك للنظام وأزلامه، في حركة مسرحية مفضوحة وكأنهم هزموا أمام الجيش العربي السوري (كما يطلقون عليه) وحلفائه من الروس والإيرانيين! ناهيك عن التباينات والتناقضات وفوضى القرارات بين القوى الثورية الموجودة في الخارج، والتي يتكلم كل منها وكأنها الممثل الوحيد للثورة وتتفاوض باسمها، وهي بعيدة تماما عما يحدث على أرض المعركة، وقد أصابها نفس الفيروس الذي أصاب الثوار في الميدان، إذ تلقفتها الدول فيما بينها تحت قسمة هذا لي وهذا لك، وتبلور ذلك جليا في اجتماعات المعارضة مع النظام في ستوشى في روسيا، بحضور الروس والأتراك والإيرانيين، والذي انسحبت منه المعارضة الرئيسية. وإني أرى أن موافقة المعارضة السورية على أن تُجرى مفاوضات على أرض العدو الذي يحتل أرضها ويقصف بالصواريخ شعبها؛ أكبر سقطة لهذه المعارضة التي شجعت المجرم بوتين على أن يقصف الغوطة ويفعل ما فعل فيها من حرب إبادة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى!

تعسر المسار السلمي للثورة كما تعثرت المقاومة المسلحة! كل هذا أرهق الثوار وأضعف الثورة، وجعل من سوريا ميدانا لصراعات الدول مع بعضها البعض، وحروب بالوكالة تتم على أرضها وكأن حربا عالمية ثالثة تجري هناك، باستغلال الثورة السورية التي تآمر عليها الكل، وتخلى عنها الأخ والصديق وخذلها القريب قبل الغريب!!

من أجل هذا نرى استحالة الوصول لحل سلمي في سوريا، رغم ادعاء المسار السلمي الذي يسير فيه المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة "دي ميستورا"، والمسرحيات الهزلية التي تجري في جنيف، والتي لم تسفر عن نتيجة، ولن تسفر عن نتيجة مستقبلا في رأيي المتواضع، والذي أرى فيه أن الحل في سوريا لن يكون إلا بالحسم العسكري.

فالتناقض بين أطراف النزاع، سواء كان طرفا النزاع الأصليان (النظام والقوى الثورية) أو القوى الخارجية الأخرى الإقليمية والدولية، تناقضا عميقا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يصل لتفاهمات وتسويات، فضلا عن أن موازين القوى في مجملها تحول دون التسوية السلمية. فالقوى الثورية وأمريكا وبعض القوى الإقليمية ترى أن التفاوض لن يؤدي لما تصبو إليه من أهداف؛ في ظل خلل واقع ميداني يصب في صالح المحور الروسي الإيراني الذي لن يقبل بالطبع بنتائج لا تعكس انتصاراته على الأرض، وهو ما يجعل الصراع مُتأججا والحرب مستمرة إلى أن تستطيع قوى الثورة تعديل الموازين على الأرض بما يتوازى مع تضحياتها، وما يحقق طموحاتها ويحقق آمال الشعب السوري الذي قدم تضحيات جسام على مدار سبع سنوات من أجل نيل حريته وكرامته..