قضايا وآراء

صراع البحر الأحمر

1300x600

كان فقدان السيطرة على الخليج العربي أحد أكبر الضربات التي وجهتها القوى الغربية للمنطقة، ولم يكن النفط هو الدافع الوحيد الذي جعل الخليج هدفا استراتيجيا للغرب. فقد بدأت محاولات السيطرة على الخليج منذ بدايات القرن السادس عشر، عندما بدأ البرتغاليون في السيطرة على البحار. لقد كان الخليج العربي ومعه البحر الأحمر هما الرافدان الكبيران بين أوروبا والغرب عموما من ناحية، وبين جنوب آسيا وكل المنطقة العربية وسواحل إفريقيا الشرقية من ناحية أخرى.

وتعتبر منطقة عمان رأسا لخليج العقبة، ومنذ بداية القرن السادس عشر لا تزال هذه المنطقة خارج سيطرة العرب، وتحت سيطرة قوى غربية ما بصرف النظر عن اسمها، وزادت هذه السيطرة خلال العقود القليلة الماضية، وخاصة بعد أن أصبحت منطقة الخليج واحدة من أهم مصادر النفط.

وتأتي من الناحية الأخرى من الخليج العربي إيران، وهي أحد أطراف الصراع في الخليج وأحد القوى التي تشارك في السيطرة عليه، فهي في الطرف المقابل لجزيرة العرب، ومع كل الاختلاف مع سياساتها الإجرامية ضد الشعب السوري ومساندة النظام هناك؛ إلا أنها تمتلك قدرا من السيادة الحقيقية بعكس الطرف الآخر المتمثل في عدة إمارات صغيرة ليس لها عمق جغرافي أو استراتيجي، بالإضافة إلى دولة ينبغي أن تكون دولة مركزية وهي المملكة العربية السعودية، إلا أن نظامها الحاكم فضل التبعية حفاظا على وجوده، وهذا بالمناسبة ليس حكرا عليهم فقط. 

البحر الأحمر نقطة صراع كبيرة أيضا كما هو حال الخليج، فمع وجود قناة السويس على طرفه الشمالي أصبح ممرا مهما للغاية لكل التجارة العالمية، وكان أيضا محورا لصراع تاريخي كبير من كل القوى الكبرى في العالم، ويمكن ضم البسفور والدردنيل لهذين المحورين لتصبح منطقة الشرق الأوسط في التسمية الحديثة لها أهم منطقة بحرية تجارية استراتيجية في العام.

نعود للخليج؛ فالخليج العربي تتصارع حوله القوى الغربية، وهي مسيطرة عليه بوجود مكثف في كل دول وإمارات الخليج بقواعد عسكرية أمريكية. وزاد وجود هذه القواعد بعد كارثة حرب الخليج وغزو العراق، هذا الوجود أضعف الوجود العربي تماما في المنطقة خاصة بعد انهيار العراق، كما أنه فتح المجال لإيران لزيادة وزنها النسبي في المنطقة. ولا يخفى أن الصهاينة موجودون بقوة أيضا في الخليج، وذلك عن طريق المتصهينين العرب التي تمتلئ بهم حكومات ونظم دولتين عربيتين تطلان على الخليج، لقد وجدت السعودية والإمارات "حليفا" صهيونيا - من وجهة نظرهم - يضع لهم قدما في الخليج.

كما تحاول تركيا الوجود داخل هذا الصراع بالتقارب مع إمارات خليجية، وخاصة بعد ظهور مؤشرات ليست طيبة في الأشهر القليلة الماضية ضد الكويت وقطر، مما دفعهم للاقتراب من حليف خارج المعادلة القديمة - الأمريكان والصهاينة وإيران - ودخلت تركيا بقدم في الصراع الخليجي إلا أنها لا تزال بعيدة بحكم الجغرافيا وتوازنات القوى والتوازنات الدولية، وينحصر الصراع بين الصهاينة تحت رعاية أمريكية من طرف وإيران من الطرف الآخر. وللتأكيد ليس الصراع عربيا إيرانيا في هذه المنطقة، ولكنه صراع إيراني من جهة، وصهيوني بوجه عربي من جهة أخرى يحاول ارتداء عباءة الطائفية.

يبدو أن هذا الصراع ينتقل إلى البحر الأحمر، الرافد الثاني الأكثر أهمية، خاصة مع وجود قناة السويس، وربما كانت قناة السويس أحد أكثر الأمور خطورة من ناحية الأمن "القومي" على مصر عبر تاريخها الحديث، ولسنا في مجال الحديث عن ذلك الآن.

والبحر الأحمر أيضا تعرض جنوبه لاحتلال برتغالي في بدايات القرن السادس عشر حتى حرره العثمانيون بعد فترة قصيرة، إلا أنه في منتصف القرن التاسع عشر سيطر البريطانيون على عدن، وقاموا بعد ذلك بشق قناة السويس واحتلال مصر، وأصبح البحر الأحمر محاصرا من شماله وجنوبه.

ودون الخوض في أمور تاريخية كثيرة؛ فقد وصلنا في البحر الأحمر الآن بصراع شبيه بما يحدث في الخليج العربي، وكل ما يحدث في المنطقة المحيطة بالبحر الأحمر له علاقة بصراع السيطرة عليه، ونفس القوى التي تتصارع في الخليج العربي؛ تتصارع أيضا بالبحر الأحمر ولكن بشكل أكثر عنفا، فالأمور لم تحسم بعد كما حدث في الخليج الذي مر بالصراعات المسلحة فيما يعرف بحروب الخليج.

فالوجود الأمريكي الفرنسي في جيبوتي (دولة مضيق باب المندب بإفريقيا) وجود قديم، كما أن اليابان والصين موجودتان بقواعد عسكرية في جيبوتي أيضا، وقامت السعودية ببناء قاعدة عسكرية هناك، وكأن هذه الدولة الصغيرة المساحة تحولت إلى مركز للقواعد العسكرية لكل القوى الكبرى والقوى الناشئة، وأيضا القوى الإقليمية، وكذلك قامت تركيا ببناء قاعدة عسكرية في الصومال منذ ما يقرب من العامين، وإيران وضعت قدما حتمية في اليمن حتى لا تخرج من الصراع.

هذا الزخم الكبير في جنوب البحر الأحمر يتبعه تحركات أخرى في شماله وفي الجزر المنتشرة فيه وبخليج عدن، فجزيرة سقطري اليمنية أحد أهم النقاط الاستراتيجية وقعت تحت سيطرة الإمارات، وهذا يعني سيطرة صهيونية عليها، وكذلك جزيرتا تيران وصنافير اللتان جعلنا خليج العقبة دوليا بعد تنازل مصر عنهما للسعودية في تسليم واضح للسيطرة على البحر الأحمر للصهاينة، يأتي ما حدث من ممر مائي ثان كأحد تفريعات قناة السويس دون أي عائد اقتصادي ليثير الشكوك حول الهدف الحقيقي من إنشائه، وهل له علاقة بإعادة السيطرة على البحر الأحمر، كما أن مشروع نيوم المتاخم لرأس خليج العقبة يبدو من الصعب أن نخرجه من هذا الصراع، وتحاول تركيا الوجود في جزر البحر الأحمر عن طريق جزيرة سواكن وسط هذا السباق المحموم.

خلاصة الأمر أن الصراع على أشده في البحر الأحمر، وما حدث في اليمن هو مقدمة لصراع كبير ربما يكون عسكريا، تحاول القوى المختلفة تمهيد أرض المعركة له بإعادة الانتشار وتوزيع القوى على طول البحر الأحمر. وما يهمنا الآن هو انهيار سيطرة النظم العربية القومية على أهم ممرين بحريين في العالم، بل وتعمل هذه الأنظمة كتوابع لقوى معادية لشعوب المنطقة، وتقوم بأعمال عدائية ضد الشعوب، وتعمل كحائط صد ضد أن تستطيع هذه الشعوب أن تكون جزءا من معادلة الصراع، وأن تحاول استعادة حقوقها المسلوبة منذ عهود الاحتلال التي يبدو أنها لم تنته بعد، وهذا يؤكد انهيار الدول القومية وعدم جدواها للأمة والشعوب في تلك الفترة الحساسة من وجودنا، التي تعتبر معركة إما البقاء أو الخروج من التاريخ.

فالصهاينة والغرب بشكل واضح قوى احتلال لا يجب التنازل لهما عن حقوق الشعوب في السيطرة على أراضيها وثرواتها، بينما الإيرانيون والأتراك قوى إقليمية تختلف النظرة لهم وعلى ما يقومون به من محاولات الدخول في معادلة الصراع، طبقا للأيديولوجيات سواء القومية أو الإسلامية، وعلى أساس العقيدة أو المذهب. وبالتأكيد نحتاج أن نكون طرفا فاعلا في هذه المعادلة وليس مجرد متابع للأحداث أو مشجع لأحد الأطراف، وهذا يحتاج إلى تغيير عميق وإزاحة كاملة لكل الأنظمة المتعاونة والعميلة للصهاينة والغرب.

عند هذه اللحظة سيكون لنا دور في الصراع، والمؤكد تاريخيا وجيوسياسيا أن مصر وتركيا وإيران أصحاب السيطرة على أهم الممرات الملاحية في العالم، لو قدر لهم التعاون أو حتى الصراع السياسي دون عداء. لن تستطيع قوة في العالم مجابهتهم أو التفوق عليهم مهما امتلكت من أسلحة، ولهذا يبدو دائما - بالنسبة لي على الأقل - محاولة صناعة عداء استراتيجي مع هذه القوى – إيران وتركيا - والتعاون مع الغرب هو درب من الخيانة المعلنة والعمل ضد مصالح الشعوب.