كتاب عربي 21

مسيرة العودة.. أين أصبنا وأين أخطأنا؟

1300x600
تعمدت حكومة الاحتلال إحداث صدمة في الوعي الفلسطيني عبر رفع التكلفة الدموية لمسيرة العودة؛ التي وصلت إلى ذروتها في الرابع عشر من أيار/ مايو. فقد ارتكب جنود الاحتلال يوم الاثنين مذبحةً ضد المدنيين السلميين، فقتلوا أكثر من 60 متظاهرا وأصابوا حوالي 2500، وهو ما يرفع شهداء مسيرة العودة منذ انطلاقها في الثلاثين من آذار/ مارس إلى حوالي 110 شهداء.

حكومة الاحتلال، عبر دخان الغاز المسيل للدموع ودوي الرصاص الحي الذي كان جنودها يصبونه بغزارة على المتظاهرين العزل، أرادت حجب رؤية الفلسطينيين لأي فائدة قد تحققها مسيرة العودة، وكسر الثقة بجدوى التمرد، ودفعهم إلى التكيف الذليل مع واقع الاحتلال والقيد.

وإذا كان البديل عن الفعل النضالي هو القبول المهين بشروط الاحتلال والموت البطيء تحت سيف الحصار، وهو خيار لا يخطر ببال الغزيين، فإن هذا يحصر حدود النقاش في مراجعة أدوات الفعل النضالي وفق محددي رفع تكلفة الاحتلال وخفض تكلفة الشعب، وهو ما يبطل حجة الذين يرفضون مبدأ مواجهة الاحتلال انطلاقاً من حرصهم على حياة هادئة خالية من التوتر. هذا الفريق نقر لهم بحقهم الشخصي في البحث عن نمط الحياة الذي يريدونه، لكنهم لا يعبرون عن الوعي الجمعي الذي يحركه دافع الاضطرار إلى المواجهة لاستحالة التكيف مع الذل والقهر.

كانت فكرة مسيرة العودة سبيلاً وسطاً بين ثنائية المقاومة المسلحة في قطاع غزة أو البقاء دون فعل شيء، فالمقاومة المسلحة ليست خياراً مفضلاً للفلسطينيين في هذه المرحلة بسبب جملة الظروف الداخلية والإقليمية والدولية التي رفعت تكلفتها. وفي المقابل، فإن عدم فعل شيء يزيد الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة سوءاً ويدفعها إلى الانفجار مع تردي الواقع الصحي وانهيار الاقتصاد وقطع الرواتب وإغلاق المعابر. هذه الجدلية بين فعل باهظ التكلفة وبين لا فعل يفاقم الأزمة؛ أظهرت الحاجة إلى النضال الشعبي السلمي كونه الخيار الأقل كلفةً، والقادر على ضرب حالة الاستقرار التي ينعم بها الاحتلال، مع ضرورة مراجعة هذا الخيار لتقليل تكلفته وإبقائه قادراً على استنزاف الاحتلال سياسياً وإعلامياً وأمنياً وأخلاقياً، بدل أن ينقلب دوره إلى استنزاف الشعب الفلسطيني من خلال رفع الثمن الذي يدفعونه.

لقد أحيت مسيرة العودة ثقافة العودة في نفوس اللاجئين في غزة، وتنامت مشاعر الشوق والحنين في نفوس الشباب والشيوخ والرجال والنساء إلى وطنهم المسلوب، وأعادت تعريف القضية الفلسطينية بأنها قضية شعب مقتلع من أرضه، وأعادت قضية فلسطين إلى بؤرة الاهتمام العالمي، كذلك فإنها فجرت الطاقات المكنونة في الشعب الفلسطيني، وعززت ثقافة الإيجابية الوطنية، واضطرت دولة الاحتلال إلى استنفار كتائبها العسكرية على طول السلك العازل مع قطاع غزة. وساهمت مسيرة العودة في تراجع الشعور بالأمن والاستقرار في المجتمع الإسرائيلي، وأحدثت تصدعاً داخلياً عبر عن نفسه في عدد من التظاهرات والمواقف التي تحرك أصحابها تحت ضغط الشعور بالعار من سلوك حكومتهم التي تقتل المدنيين العزل، وأنهت مسيرة العودة حالة اللامبالاة الإسرائيلية والدولية تجاه حصار غزة، وساهمت في إحراج موقف دولة الاحتلال عالمياً وعرقلت عجلة التطبيع.

هذه الفوائد يجب ألا تغيب عن حسابات أي عملية مراجعة لمسيرة العودة، فلا يصح أن يقال إن الفكرة فشلت لأن الاحتلال ارتكب مجزرةً ضد المدنيين، فالاحتلال لم يرتكب المجزرة إلا لأن مسيرة العودة تحمل بذور تهديد استراتيجي لكيانه، وهو ما عبر عنه اليوم وزير الحرب السابق موشيه يعلون؛ بالقول إن الفلسطينيين يحاربوننا على تل أبيب، وليس المستوطنات، ولذلك لا مجال للسلام بيننا"، لذلك هدف الاحتلال من خلال قتل المتظاهرين إلى قتل الفكرة ذاتها، وعملية المراجعة ضرورية، لكن قوامها ينبغي أن يكون تعزيز الفوائد والبحث عن مواطن سوء الإدارة التي رفعت تكلفتها الدموية من أجل تداركها.

أعتقد أن ثمة خطأين رئيسين ارتكبا في طريقة الإدارة الفلسطينية لمسيرة العودة، وقد تمثل الخطأ الأول في رفع سقف آمال الناس عبر تضخيم مركزية منتصف أيار/ مايو، وهو ما أوجد موعداً يترقبه الناس وينتظرون منه الكثير، وأضر بفكرة الاستدامة. ولو كانت مسيرة العودة دون تحديد موعد أطلق عليه بأنه يوم الذروة، لسمح ذلك بتفاعلها ونضجها على نار هادئة واستدامتها بما يمثل استنزافاً حقيقياً لدولة الاحتلال، وكذلك الترويج لفكرة العبور دون إعداد متكامل لهذه الفكرة، وهو ما حمس الجماهير وساهم في اندفاعهم باتجاه السلك العازل، وكذلك رفع مستوى الخوف الإسرائيلي، وهو ما انعكس على مستوى العنف الذي لجأ إليه، فانقضى يوم الرابع عشر من أيار/ مايو الذي أطلق عليه النشطاء "يوم العبور" دون عبور فعلي، وفي ذات الوقت مع تكلفة مرتفعة لم نكن مضطرين إليها لو كان الهدف إيصال رسالة إعلامية وجماهيرية وحسب.

أما الخطأ الثاني، فقد تمثل في تصدر حركة حماس للمشهد أكثر مما ينبغي، وهو ما جعلها العنوان الذي تتوجه إليه الضغوط الإقليمية، وأضر بالعمق الشعبي للحراك. وقد تعاملت حركة حماس بغموض مع الجماهير، بل حتى بغموض مع الناشطين في مسيرة العودة الذين تنظر الجماهير إليهم بأنهم المسؤولون عن اتخاذ القرار، وذهبت قيادة حماس إلى القاهرة قبل يوم من ذروة مسيرة العودة، في زيارة غامضة، ثم رجعت دون إطلاع الناس على نتائج تلك الزيارة. ومع غياب المعلومات والشفافية فتح باب التكهن، وزعمت بعض المصادر أن حركة حماس تلقت تهديداً من النظام المصري في تلك الزيارة القصيرة إن استمرت مسيرة العودة.

إن حركة حماس هي قوة وازنة في قطاع غزة، لكن ليس من مصلحتها الاستفراد في اتخاذ القرار وفي تمثيل الجماهير. فحركة حماس رغم ثقلها التنظيمي والجماهيري، فإنها لم تكن قادرةً على تنظيم فعاليات بقوة مسيرة العودة طوال عشر سنوات خلت، والجماهير التي خرجت بهذا الزخم إنما فعلت ذلك لأن مشهد مسيرة العودة كان وطنياً وحدوياً جامعاً. ومما ساهم في إقناع الجماهير بالمشاركة في مسيرة العودة، تصدر شخصيات وطنية ومجتمعية بعيداً عن القيادات الفصائلية التقليدية.

توسيع قاعدة المشاركة وتقليل مركزية قيادة حركة حماس سيقوي الموقف الشعبي الفلسطيني، وسيضعف قدرة الجهات الخارجية على ممارسة الضغوط. كذلك، فإن من حق شركاء النضال أن يكونوا شركاء في القرار، وألا يتم الالتفاف عليهم في لقاءات سرية أو التعامل معهم بأنهم ديكورات إعلامية.

لا بديل عن مواصلة نهج مسيرة العودة وتطويره. وبعد 45 يوماً من انطلاقها، فإن من المفيد استقاء عبرتين:

أولاهما، تكريس ثقافة النضال السلمي في المجتمع الفلسطيني بديلاً عن ثقافة الاشتباك المباشر مع جنود الاحتلال. فالنضال السلمي لا يقتضي بالضرورة الفعل المادي الملموس، مثل قص السلك وإلقاء الحجارة وسقوط الشهداء والجرحى، بل إن خلق حالة من الحضور الثقافي والفني والاجتماعي والإعلامي في ميادين العودة، والقدرة على إبداع أنشطة متجددة، وجذب الاهتمام الدولي؛ هو نمط اقتصادي التكلفة لكنه قادر على إبقاء زخم مسيرة العودة وحرمان الاحتلال من الشعور بالاستقرار، ويرتبط بهذا التوقف عن التنظير لفكرة العبور كي لا نحرق المراحل بخطوات مستعجلة ولا نرفع ثمن التكلفة البشرية. وإذا كان العبور والعودة إلى الوطن هو الحلم الجميل الذي يداعب مخيلة اللاجئين، فإن إحياء ميادين العودة وزيارة العائلات والأصدقاء إليها هو عنصر إزعاج مستدام للاحتلال، وعنصر تغذية للثقافة الوطنية حين لا تسمح الظروف التاريخية بخطوة العودة الكبرى.

ثانيهما، تعزيز حضور أطياف المجتمع المتعددة في مسيرة العودة، وتشكيل جسم مدني فاعل لا يطغى عليه الحضور الفصائلي، ويكون هذا التيار المدني قادراً على قيادة هذه المرحلة. فلكل مرحلة عناوينها، ومن يقود الكفاح المسلح مع كل التقدير لجهوده ونضاله فإنه ليس الجهة المناسبة لقيادة الكفاح السلمي، وأن يكون هذا التيار ممثلاً حقيقياً للجماهير، وأن يكون ديمقراطياً تشاركياً لا يستأثر بقيادته جهة واحدة كي لا يسهل على الأطراف الخارجية ابتزازه.. وجود هذا التيار المدني سيقوي الرواية الفلسطينية بأن مسيرة العودة هي نشاط سلمي، وسيخرج هذا الإبداع الوطني من دائرة الاصطفافات والاستقطابات المضرة، ويعزز مكانة مسيرة العودة بأنها مشروع وطني راسخ ومتراكم.