قضايا وآراء

نقد إحيائية العقل الطائفي

1300x600
تمهيد: كانت ظاهرة النبوة دفعا من الغيب لعقلنة الفكر الإنساني عبر تدريبه على التمييز بين ما هو عيني وما هو مجرد. فالتوحيد مصدر للتجريد الذي يصل الإنسان بعالم القيم ليجعلها موجها لتصريف ما هو عيني، بما يحقق حاجاته دون أن ينحط بفعله إلى درجة الحيوانية بما تمثله من استجابة غير عاقلة، بمعنى غير محكومة بالمثل الأخلاقية التي تجعله يتحرى ليضمن شرعية الأسلوب. المشكلة كانت نزوعا لدى الإنسان للخلط بين المجرد والعيني، حيث تعطى صفات المجرد للعيني وصفات العيني للمجرد، في اتجاه يعيد صياغتها بما يتناسب مع الغالب في هيكلة بنى المجتمع، إلى أن تفقد القيم وضوحها ونقاءها إلى درجة يفقد معها الوحي هويته، ويستبدل بالتدريج بما يشرع للغالب أن يكون مصدرا لتحديد ما هو شرعي وما هو دون ذلك، فيرسل الله نبوة جديدة تحرر الإنسان من الارتهان لما أفرزته المنفعة بهرميتها الاجتماعية في كل أبعادها، وتعيد للقيم استقلالها عن سيطرة أصحاب النفوذ، فيجمع الوحي والنبوة في ذلك بين تحرير الإنسان في واقعه وفي تفكيره في آن.

إن تعهد الله بحفظ الوحي يخفف من نتائج الإحيائية التي لا تميز بين القيمي والنفعي، بما يمنعها من تحريف الوحي لتكييفه مع السائد، إلا أن ذلك لا يوقف عملية الخلط ولكن يلطفها ويجعلها في حدود. ويقع الخلط على مستوى الفهم عندما يقع الخلط بين النص والفهم، فإن كان النص إلهي المصدر فإن الفهم هو إنتاج عقلي، والعقل معطى بشري يخضع للظرف الذي شكله، سواء كان ذلك في شكل تفاعلات داخل نسق ثقافي واحد أو تقاطعا وتفاعلا بين أنساق ثقافية متعددة، بحسب ما تكون عليه بنى العلاقات داخل وبين المجتمعات.

مظاهر الإحيائية في الفكر الإسلامي التقليدي


مع وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وانقطاع العلاقة المباشرة بين الله والإنسان، لم تعد الفاعلية الاجتماعية التي تدفع المسلمين في مختلف مناشطهم متعهدة، مثلما كان الحال مع النبوة، وإنما أصبحت محكومة بثلاثة عناصر، وهي الوحي والإمكانات المعرفية ومعطيات الواقع بكل تشعباته ومكوناته. فالتفاعل بين هذه العناصر أنتج نموذجا تاريخيا يعبر عن قدرة الأجيال الأولى من المسلمين على تحمل المسؤولية، والإقدام على الفعل دون خشية الإخفاق، فتميزوا في مجالات واعتل أداؤهم في أخرى، ولكن تمكنوا أساسا من أن يكونوا صناعا للتاريخ بما يعنيه من ريادة وقدرة على الارتقاء بالعلوم وبمستوى معيشة الناس في مختلف مجالات الحياة، مقارنة بما كان سائدا في زمانهم ومن قبلهم. كانت البدايات معبرة عن أجيال مبدعة بما تمثله من إيمان بقدرتها على الفعل نتيجة للتحرر الذي حصل في ذواتها من الارتهان للتراتب الاجتماعي في نظرتها لذاتها، فأصبحت تستمد نظرتها إلى ذاتها مدفوعة بروح الإحساس بالتكريم الذي غرسه الوحي في نفوسهم، فلم ينتظروا شهادة من مؤسسة أو من أشخاص ليتفاعلوا بإيجابية مع الحياة.

تجسدت هذه الروح في شكل تمدد للمجتمع المسلم حول العالم بشكل سريع كطفرة أو ثورة غيرت وجه العالم، فكان لا بد من تنظيم هذا الفضاء الممتد لضمان بقائه واستمرار فاعليته وقدرته على البناء، فكانت مأسسة المناشط مدخلا لتثبيته، مما حوّل المجتمع من مرحلة اعتماد القيم لهدم النظم إلى مرحلة اعتماد القيم لإنشاء نظم، مما ينشئ ميلا للثبات بدلا من الميل للتغيير، فيصبح بذلك التحضر ليس في القدرة على الإبداع، وإنما في القدرة على التنظيم والالتزام بالسائد.

احتكرت كل مؤسسة إنتاج مجال من مجالات المجتمع، فسيطرت القبيلة على السياسة عبر توريثها لمنطق العصبية للانتماء الاجتماعي في شكله الأسري، وسيطر العلماء على إنتاج المعرفة وجعلوا لها شروطا وقيودا مؤسسية وفردية ومنهجية تراعي استمرار مواقعهم أكثر مما تراعي ضرورة الإبداع بما يعنيه من تحرر، وهو ما أعطى الأولوية للنموذج التاريخي على المصدر القيمي من خلال إعلاء الإجرائي على المضموني، فأحدث ذلك خلطا في وعي الناس بين ما هو تاريخي وما هو ديني، وبين ما هو ثقافي وما هو قيمي، مما أوشك على تحويل الدين إلى هوية قومية عوض أن تكون مشتركا قيميا ينبع من فهم للوجود، وليس خاضعا لموقعنا من الوجود في صيغته الاجتماعية.

أتذكر مثالا طريفا على ذلك الخلط من تجربة عايشتها، حيث كنت يوما في طريقي إلى أحد المساجد في بريطانيا لصلاة الجمعة، فقابلت في الطريق شابا إنجليزيا أسلم وقد اعتقد من خلال ما علّمه ملقنوه أن اللباس العربي شرط لحضور صلاة الجمعة، فارتدى ذلك اللباس وهو يقود دراجته الهوائية، فكاد يسقط لعدم تعوده على ذلك اللباس وقيادة الدراجة في نفس الوقت. كان مظهره يدعو للشفقة ومثيرا للضحك لطرافة المشهد. توقف لتحيتي، فسألته: لماذا يعرض نفسه للخطر، فأخبرني بما لُقن، عندها قلت له إن الله يدعونا إلى أن نسلم لا أن نتعرب، فالإسلام لا يدعونا إلى ثقافة محددة، وإنما يمدنا بالقيم الضرورية لنهذب ما لدينا أصلا.

أليس في هذا الخلط إحيائية تعطي الأولوية للمثال على مصدره؟

إحيائية العقل الطائفي:

إن إحيائية العقل الطائفي إحيائية مركبة، حيث أنها لا تكتفي بالخلط بين النموذج التاريخي ومصدره، أي بين الباعث القيمي وبين منتجه التاريخي والاجتماعي، ولكنها بالإضافة لذلك تغرق في إحيائية أخرى ناتجة عن الإحيائية الأولى، مما يراكم القصور المعرفي. وهذا وجه الإحيائية الثاني الذي تأسس على الخلاف السياسي الذي اندلع بين الجيل الأول للمسلمين (الآل والصحب)، أيا كانت طبيعة علاقتهم بالرسول صلي الله عليه وسلم. كان الخلاف في فترات مختلفة، وكان تعبيرا عن تفاعل مع تحديات طبيعية واجهوها تطلبت تصريفهم للبنى الاجتماعية في المدينة (المهاجرون والأنصار) وموقع كل طرف منهم من باقي قبائل الجزيرة العربية، ثم أثر اتساع تجاوز الجزيرة العربية متزامنا مع عامل آخر تمثل في تهرم النخبة التي لم تفسح المجال للأجيال الجديدة للتحمل المسؤولية، مما ولد احتقانا ولد صراعا بين الأطراف والمركز، وكان جيل الشباب في كل من الأطراف والمركز طرفا فاعلا فيه، خاصة مع مرحلة الخليفة الثالث رضي الله عنه.

كان المجتمع الإسلامي ينمو بسرعة فائقة، ولم يكن للجيل الأول سابق خبرة في التعامل مع هذا الواقع الجديد المركب، حيث تداخلت فيه القبائل والأمم والثقافات وترامت فيه الأطراف، فكان من الطبيعي أن يحدث ذلك هزات وبعض المشاكل أمام محدودية استيعاب الجيل الأول لسرعة التحولات، واكتفائهم بحصر إدارة الشأن العام في جيلهم وفي عنصري أهل مكة والمدينة والعنصر العربي، فتصاعدت التوترات على فترات مختلفة. وعوض فهم ما وقع في حدود إطاره الثقافي الاجتماعي بمعناه السوسيولوجي، عزل عن ذلك الإطار الذي أنتجه، واستعملت الإشكالات التي طرحت مداخل لفهم الدين، بمعنى أساسا لتأويل الوحي. ولأن تلك الإشكالات متعلقة بتجربة أشخاص من الجيل المسلم الأول، فإنها أحدثت ترابطا شرطيا، ليس بين الأفكار وشروط إنتاجها التاريخية، وإنما بين الأفكار والفاعلين من المسلمين الذين أدى اجتهادهم وعملهم إلى بعض الإشكالات، فانتقل إنتاج المعرفة لدى العقل المسلم من إحيائية التاريخ إلى إحيائية الأشخاص، حيث قسم الجيل الأول من السابقين للإسلام إلى آل وأصحاب. وأوّل التنوع في الإفهام والمقاربات تناقضا، فأعطى طرف اهتماما أكبر للصحب دونما مساس بقيمة الآل، في حين أعطى الطرف الثاني الأولوية للآل على الأصحاب، وانزلق أغلب المتأخّرين من الطرف الثاني إلى معاداة الصّحب.

إنّ عدم الوعي بالشروط التاريخية التي ساهمت في إنتاج المعرفة ولّد بنية عقلية غارقة في الإحيائية، إحيائية لم تستطع تجاوز المعطى التاريخي في تأويلها للنص، وهذا ما وقع فيه -ولا يزال- الغالبية من المسلمين بعوامهم ونخبهم، ولكن نسبة أقل من المسلمين انزلقت في قراءات يمكن تلخيصها في قولة المفكر مالك بن نبي: إذا غابت الفكرة بزغ الصنم. وفي قول علي شريعتي: علينا أن لا نتعلق بالحسين وأنا بالمبادئ التي استشهد من أجلها الحسين.

إن اختزال الدين في سير الآل والصحب -رضي الله عنهم أجمعين- وعمق هذه البنية المعتلة للعقل خوف من النقد الذاتي مخافة أن يتسرب خصوم الدين من المستعمرين القدامى فيفسدوا علينا ديننا، وهو ما انتبه إليه المستعمرون القدامى فعملوا على إنتاج الشروط الموضوعية لإدامة هذا العقل التراثي الذي لا يرى حاضره عبر توظيف التناقضات الطائفية، مستغلة في ذلك أنظمة حكم مسلمة استعملت الدين أساسا لشرعنة حكمها، فاستعملت أدوات الدولة للشحن العاطفي الذي يدفع إلى الصراع الطائفي، وهي تستهدف مد نفوذها عبر توظيف كل الوسائل الممكنة وتحويل الدين إلى رهينة بيد الدولة، تستعمله كما تشاء.