كتاب عربي 21

المنطقة.. في الحركة بركة

1300x600

صحيح أن المنطقة العربية لم تخل من هزات كبرى طوال تاريخها الحديث، كالحروب العربية الإسرائيلية، وحروب الخليج، والمقاومة الفلسطينية منذ ستينيات القرن الماضي، وغير ذلك، لكن الحركة القائمة في المنطقة العربية تختلف في سماتها عن كل الهزّات التي كانت تقطع السكون العربي طوال التاريخ العربي الحديث والمعاصر.

فبالرغم من الأحداث الكبرى التي هزّت المنطقة العربية في العقود الثلاثة الأخيرة وإلى ما قبل الثورات العربية، كحربي الخليج 1991 و2003، وانتفاضة الأقصى 2000.. كان يبدو أن النظام العربي مستقرّ، وأن المنظومة الدولية الداعمة له، قادرة على الإمساك بخيوط المنطقة، بمعنى أن منظومة الهيمنة والسيطرة ثابتة ومستقرة، وحتى توقيع اتفاقية أوسلو، ومع أنّها حديث كبير وخطير، فإنّه جاء في سياق السكون لا في سياق الحركة، فاستقرار النظـام الإقليمي العربي، وقوّة المنظومة الدولية، وهيمنة "إسرائيل" ونفوذها، دفع في النهاية منظمة التحرير لتوقيع اتفاقية أوسلو.

لعل حرب الخليج الأخيرة 2003 انطوت على فاعلية مستمرة التقت بالثورات العربية، فقد أسفر الاحتلال الأميركي للعراق، عن قدرة غير مطلقة في السيطرة على نتائج أفعاله، فانفجرت حركة شعبية ضخمة في مواجهة الاحتلال ووقائعه، وظلّ العراق غير مستقر حتى اللحظة، واتصل الظرف العراقي بالظرف السوري من بعد انفجار الثورة السورية، وكذلك انتفاضة الأقصى التي أسست لوجود سلطة مقاومة في قطاع غزّة، فسلطة المقاومة هذه الآن، ورغم كل أزماتها فاعلة، ومتشابكة مع أحداث الإقليم وتعقيداته.

ومع أن ظهور آثار الأحداث التاريخية المنصرمة في واقعنا الراهن يعني أن التاريخ لا يعبث، وأنه كتلة متصلة من مراكمة الأحداث والبناء عليها، وأنّ ما مضى مؤسس –بشكل أو بآخر- لما هو قائم الآن، فإنّ تلك الأحداث الكبرى الماضية في حينه كانت تبدو منفصلة، وفي سياق من السكون العام، واستقرار أوضاع قوى الهيمنة والسيطرة؛ "إسرائيل"، النظام العربي، والمنظومة الدولية، لكن هذه السمات أخذت تتغير مع الثورات العربية، التي اتسمت بالسعة والشمول، فغطت بعمق قلب العالم العربي، وألقت بجانب منها في أطرافه، وكان للجماهير فاعلية كبرى لم تزل مستمرة في غير مكان من أرض الثورات.

والأهم في اختلاف سمات الحركة الراهنة في العالم العربي عن الهزات الكبرى الماضية، أن هذه الحركة الراهنة خلخلت استقرار النظام الإقليمي العربي بشكل جدي، فقد أسقطت حكامًا بدوا خالدين، وخلخلت أنظمة راسخة، وألقت بالغموض واللايقين في أماكن أخرى، ولا يقل عن ذلك أهمية أنها لم تزل مستمرة حتى اللاحظة، إن بذاتها أو بتداعياتها المباشرة من خلال الحركة الجماهيرية العزلاء أو المسلحة، أو بتداعياتها غير المباشرة، فظروف عدم الاستقرار في منطقة الخليج، واحتمالات الصدام الإيراني الإسرائيلي، كلّها تداعيات متصلة بأحداث الثورات العربية، وفي السياق نفسه، من المجازفة القول إن النظام الانقلابي في مصر قدر استقر، أو أن الحدث السوري قد حسم، والإضرابات والمظاهرات المستجدة الجارية في الأردن، وبصرف النظر عن مآلاتها، فهي غير منفكة عن ذلك كلّه أيضًا.

نستطيع إذن أن نقول إن الأحداث التي قامت في هذه الحركة في وقت واحد، غير منفصلة عن بعضها، أي الثورات العربية، ثم استمرت بلا توقف بأشكال متعددة، طوال ثماني سنوات، وحتى الآن، وظلت لها تداعيات قائمة تتولد منها العديد من التوترات واحتمالات التحول والتصاعد، ثم هي حركة للجماهير دور أساسي فيها، سواء في إنشائها، أو دفعها حتى الآن، أو في خلق تدافعات بين قوى السيطرة التقليدية، ثم هي حركة كاشفة، لم تترك قناعًا إلا وخلعته عن الوجوه الزائفة، فلا ينخدع بعد ذلك إلا المضروب على بصيرته!

حركة هذا شأنها، لا بدّ أن تضم إلى ثناياها الأوجاع والدماء والخوف والقلق واللايقين، ولكن طالما أنّها ما زالت قائمة، فكما قيل "في الحركة بركة"، فالأمر ليس مستقرا لأحد بعد، وهذا كاف لحصول تحوّل كبير من أي مكان من الأماكن التي تغطيها هذه الحركة، وطالما كان التحول أقرب للعمق، عمق العرب، وأقرب من بؤرة الصراع التي تتمحور حولها كل هذه الأحداث، أي فلسطين، فإنّ إمكانيات اتساع التحول وارتباطه ببقية الجغرافيات العربية سيكون أكبر، ولكن يلزمنا كثير من الصبر.