كتاب عربي 21

جلسات غسيل دماغ المصريين

1300x600
لم أكن يوما ما من هواة متابعة المسلسلات التلفزيونية أو الإذاعية، لكن، لدي شغف دائما للاطلاع على ما يقدم للشعب عبر شاشات التوجيه المعنوي. ويجب أن نشير هنا إلى أن التوجيه المعنوي ليس جريمة إذا ما استخدم لخلق مناخ وطني مبني على الحقائق وعلى هدف تحقيق حلم الأمة المشترك.

وبتصفح مسلسلات رمضان هذا العام، وجدت أن الأمر قد تعدى تنفيذ خارطة طريق مُعدة بمعرفة التوجيه المعنوي؛ إلى خارطة طريق يمليها جهاز أمن الدولة، الذي تجمل بثورة 25 يناير ليعطي نفسه اسما أكثر بريقا "الأمن الوطني"، ولعله اتخذ اسما يعبر عن واقعه ألا وهو "أمن أعداء الوطن".

فمسلسلات التلفزيون الرسمي وشبه الرسمي، المسمى بالقنوات الخاصة (وكلاهما موجه من قبل الأمن)، ركزت أعمالها هذا العام على عدة أمور تستحق التأمل.

إن الغالب المطلق لهذه الأعمال موجه باتجاه تكريس الوهم بأن مصر تواجه إرهابا، وأن هذا الإرهاب يدمر حياتنا اليومية، بوضع قنابل موقوتة في أماكن التجمع العامة بما فيها المدارس، والتأكيد على أن ذلك الإرهاب يرتدي ثوبا دينيا؛ إلا أنه موجه من الخارج من عصابات تمولها دول أجنبية.

وعلى جانب آخر، يسعى التوجيه الأمني لتصوير الشعب المصري على أنه مريض نفسي، وأن أغلبنا إما مرضى نتردد على أطباء الصحة النفسية، أو نعاني من أوهام وواقعين تحت تأثير أوهامنا أو ما يُملى علينا من أعداء الوطن. 

كما يحاولون خلال هذه الفترة عبر مخدرات التلفزيون بأن يرسلوا لنا رسالتين متضادتين، أولهما توجيه اللوم للثورة التي تسببت في كل مشاكلنا، وثانيهما الادعاء بأن النظام الفاسد قد رحل وقد تغير الوضع وأننا نعيش عصر العدل. ولك عزيزي المشاهد أن تختار ما يروق لك من الرسالتين، وفي جميع الأحوال فمصر هي الجنة بفضل النظام المغتصب للسلطة، ونحن في أحسن حال.

ويصور لنا التوجيه الإعلامي الأمني من خلال هذه الأعمال من لُعنوا منا نحن شعب مصر على مدار العقود السابقة، وهما الشرطة والبلطجية، الذين هم ولا شك جزء من جهاز واحد يدير مصر منذ فترة، قد نختلف على تقدير مدتها، ولكن أقلها ثلاثون عاما.. يصور لنا هذه الكائنات بصورة البشر ويدخلنا في حياتهم الأسرية، مصورا لنا صورا إنسانية بهدف أن نتعاطف معهم، ونتوهم أن العيب ليس فيهم، بل فينا نحن.

ويسعى الموجه العام كذلك لإيهامنا بأن تلك الأدوات من الشرطة والبلطجية يعانون ويضحون من أجل الوطن لننعم نحن بالأمن، وقد يكون العديد منهم ولا شك يعاني ويضحي، إلا أنهم يعانون من إيهام أغلبهم بأن معاناتهم من أجل الوطن، بينما هم والوطن المختطف يعانون من أجل نظام يسرقنا جميعا ويوجه كل الجهود للحفاظ على نظامهم الفاسد والمفسد.

وكذلك يصور لنا ذلك الموجه أن البلطجية، مصاصي دماء مصر ودماء شعبها، هم ليسوا بلصوص يمصون دماء الوطن، ولكنهم من سلالة أدهم الشرقاوي الذين يستولون على أموال العصابات وسارقي قوت الشعب ليعيدوها لمستحقيها وليوزع الثروة بشكل عادل.

ويسعى ذلك الموجه الإعلامي لإقناعنا بأن الأمن المصري يحسن معاملة الجميع من خلال تحقيق وإجراءات قانونية، ولا يستخدم أي طرق غير قانونية أو غير آدمية في التعامل حتى مع أعتى المجرمين أو مع الإرهاب.

وعلى جانب آخر، يحاول المهرج الإعلامي أن يوصل رسالة لا أعتقد أن أي مصري مهما بلغت سذاجته سيقتنع بها، يحاول ذلك الموجه أن يقنعنا بأن القضاء المصري نزيه، وأن جميع الإجراءات التي يتبعها الأمن وإجراءات التقاضي في مصر تتم وفقا للمعايير الدولية للعدالة.

وحتى نقبل القصة الوهمية الخاصة بتأليه النظام وتنقيته من خطاياه، يصورون لنا بأن ذلك النظام يحترم القوانين الدولية وعلاقته مع الدول ويحافظ على كل البشر، مصريين وأجانب، وكأنه يخاطب حكومة إيطاليا وليس شعب مصر المكتوي بنارهم.

خلاصة الأمر أننا أصبحنا لعبة في يد ذلك التوجيه الأمني المتحكم في عقولنا، فبعد أن سعد البعض بفتح مجال الإعلام للآراء المختلفة بتحرير قبضة الدولة الرسمية على الإعلام، أصبحنا ألعوبة في أيدي الدولة الرسمية والدولة العميقة التي يتحكم فيهما ذلك الجهاز الذي يتحكم في كل حياتنا.. إعلام مسيّر بأمن يبطش بنا على كل الدروب لأجل تمكين نظام فاشي، تمكين قد أتى بثماره وفق الخطة الموضوعة.

وبدلا من أن يكون موقفنا صلب من أجل بناء مصر التي نتمناها، نجح ذلك الإعلام ومنذ زمن أن يحولنا إلى مقاتلين نتقاتل وبشراسة، نتقاتل فيما بيننا ذات اليمين وذات اليسار، نقاتل الماضي ونتشفى بأخطائه ونحقر من إنجازاته، وننسب لأنفسنا النجاح ونرجم من يخالفنا بالفشل.. حوّلنا ذلك الإعلام ومن خلفة لمقاتلين لطواحين الهواء، فوقعنا في شباك آلهة الشر.. إعلام لا يملك حرية التعبير عن آراء متنوعة، ولكن يعبر وفقط عن رأي واحد: رأي الحاكم بأمر الله وقواديه وحاشيته، والله بريء منهم جميعا.

فمصر في عصر ولاة آل سعود وآل زايد ليست إلا قطعة من نار جهنم على كل من يخالف تفكير مندوب المحفل الماسوني في ما يسمى قصر الرئاسة بالقاهرة، ولكن منا من قد يشفى من ذلك الوهم بجلسة من جلسات غسيل المخ التي نتعرض لها يوميا، ولا يوجد حتى الآن من ينقذنا منها!