كتاب عربي 21

في معاني انتصار أردوغان وتحالف "الجمهور"

1300x600

بعكس العديد من الاستطلاعات والتحليلات، انتصر رجب طيب أردوغان وتحالفه التشريعي، "الجمهور" (حزبه "العدالة والتنمية" و"الحركة القومية") في الانتخابات الرئاسية من الدور الأول، ولم تكن هناك حاجة للمرور الدور الثاني. نحن بلا شك إزاء انتصار واضح وحاسم، يقطع مع الانطباع الذي ساد طيلة الأشهر الماضية بأن انخفاض الليرة والشكوك في تراجع شعبية حزب "العدالة والتنمية"؛ ستؤثر على النتائج، وستجعل الانتصار صعبا ومريرا. 

بيد أن قراءة النتائج لا يمكن أن تقف عند طبيعتها التقنية. نحن إزاء جمهورية جديدة وتوازنات مختلفة تركية وإقليمية. التداعيات كبيرة ومعقدة، ولا تخص مسار الديمقراطية في تركيا فحسب، بل تخص أيضا الدور التركي في المنطقة وتأثيرها على توازناتها، وهو ما يصل بطبيعة الحال إلى منطقة المغرب العربي، بما في ذلك تونس. هناك رزمة من ثلاث أسئلة تستوجب المناقشة:

 

 

إزاء جمهورية جديدة وتوازنات مختلفة تركية وإقليمية. التداعيات كبيرة ومعقدة، ولا تخص مسار الديمقراطية في تركيا فحسب، بل تخص أيضا الدور التركي في المنطقة وتأثيرها على توازناتها

 

- هل نحن إزاء ترسيخ للديمقراطية أم انحراف استبدادي؟ 

- كيف يؤثر استقرار حكم أردوغان وقاعدته التشريعية على الصراعات في المنطقة العربية؟ 

- كيف يؤثر تحديدا على تونس؟

التعديلات التي مست دستور 1982، والتي تم الاستفتاء قبل حوالي العام عليها إيجابيا، ولو بهامش بسيط، غيرت جذريا في قواعد اللعبة السياسية في تركيا، وفتحت نقاشا متواصلا حول ما إذا كنا بصدد انحراف للنظام السياسي نحو تركزه في شخص أردوغان بصلاحيات فرعونية، أم هو ببساطة نظام رئاسي عادي نجده في العديد من الديمقراطيات. أهم التعديلات تتعلق بإلغاء مؤسسة رئاسة الحكومة، وتحول رئيس الجمهورية إلى الرئيس الأوحد للسلطة التنفيذية. والتعديل الآخر الأهم هو صلاحية الرئيس في إصدار مراسيم رئاسية لها قوة القانون. وشبّه بعض الناقدين للتعديلات ذلك بأنه شبيه بالفرمانات السلطانية العثمانية. لكن هنا توجد شروط، ولا يستطيع الرئيس إصدار أي أوامر يرغب في إصدارها، إذ يجب ألا تتعارض مع الحقوق الأساسية المضمونة في الدستور، أيضا لا يمكن أن يصدر الرئيس أوامر حكومية متناقضة مع القوانين القائمة، والأهم يستطيع البرلمان إصدار قوانين تلغي الأوامر الحكومية. وللرئيس حق حل البرلمان، لكن بسبب التنصيص على إجراء الانتخابات الرئاسية مع التشريعية، فإن ذلك يعني أنه سيقيل نفسه. يبقى هنا من حقه أن يترشح من جديد، بمعنى آخر يمكن لأردوغان أن يبقى في الرئاسة، إذ تم تطبيق هذا السيناريو لدورتين ناقص بعض الوقت مع دورة ثالثة، أي إلى سنة 2034.

أولى خطوات تجسيد النظام الرئاسي هو تقديم أردوغان تركيبة حكومة بـ16 وزيرا ونواب رئيس؛ إلى البرلمان عند انعقاد جلسته الأولى في 8 تموز/ يوليو. المعطى المهم الذي يواجه الرئيس التركي هو تقهقر نتائج حزبه في التشريعية، مقابل حصول القوميين الأتراك على ما يزيد عن العتبة؛ بحصولهم على نحو 11 في المئة.

 

 

المجال الهش لنفوذ حكمه هو البرلمان، ويعني هذا أيضا أن النظام الرئاسي الحالي لن يسمح لأردوغان بأن يمرر التشريعات التي يريد دون قراءة حساب تفكك التحالف الهش في البرلمان



المعطيات الأولية تشير بداية إلى أن الحكومة ستكون في جزء منها سياسية؛ بتعيينات من العدالة والتنمية أساسا، لكن أيضا من "الحركة القومية"، خاصة بعد تنبيه زعيمها دولت بهشتلي عشية الانتخابات بالانسحاب إن تم تجاهل الحركة، مثلما حدث سابقا سنة 2015 في حكومة داوود أوغلو. الأرجح أيضا أنه ستتم معالجة هذا التقهقر مثلما تتحدث بعض التقارير، عبر تعيين شخصيات شهيرة ورجال أعمال في مناصب حكومية. لكن هذا يعني أن المجال الهش لنفوذ حكمه هو البرلمان، ويعني هذا أيضا أن النظام الرئاسي الحالي لن يسمح لأردوغان بأن يمرر التشريعات التي يريد دون قراءة حساب تفكك التحالف الهش في البرلمان.

الحقيقة أن الانحراف الممكن لا يمكن أن يكون بناء على التعديلات الجديدة والوضع المجرد للنظام الرئاسي التركي، بل على أساس ثقافة شخصنة موقع الرئاسة وارتباطه بأردوغان، وكل الممارسات الفعلية اللادستورية التي يمكن أن تشيع الخوف وتنتقص تدريجيا من الحريات.. أي نموذج روسيا الحالية، النموذج الأوتوقراطي بآليات انتخابية. ومما لا شك فيه أن الرئيس التركي مغرم بالنموذج الروسي، وسيسعى على الأرجح إلى استنساخه. لكن بين الرغبة والطموح وتوازنات الواقع هناك مسافة، ربما لن يستطيع على تخطيها.

 

الانحراف الممكن لا يمكن أن يكون بناء على التعديلات الجديدة والوضع المجرد للنظام الرئاسي التركي، بل على أساس ثقافة شخصنة موقع الرئاسة وارتباطه بأردوغان، وكل الممارسات الفعلية اللادستورية


نذهب الآن إلى المسألة الثانية، أي استقرار حكم أردوغان وتحالفه في الحكم على المنطقة العربية وصراعاتها. بكل تأكيد، سيواصل أردوغان وحزبه الإسلامي مع حليفه القومي (الحركة القومية)؛ ممارسة سياسة خارجية مزدوجة بين مساندة توجهات إسلامية معتدلة (إخوانية أساسا) والدفاع عن مصالح دولة قومية موحدة؛ ترى في الطموح القومي الكردي خطرا وجوديا يستوجب التحالف مع إيران من جهة، وتوظيف أي قوة مسلحة حتى المتطرفة/ الإرهابية منها (بما في ذلك المرتبطة ببقايا داعش أو النصرة)، بل ربما حتى السلطوية (النظام السوري إذا لزم الأمر)، لكبح الأكراد. هذه السياسة المزدوجة، والتي يمكن أن تصل للتناقض أحيانا (خاصة عندما يتعلق الأمر بسوريا) تعني تواصل الارتباك في الدور التركي في المنطقة وتداعياته الإيجابية من جهة (دعم مسارات تقوض الانظمة الاوتوقراطية)، والسلبية من جهة أخرى (منع إيجاد حل في سوريا يتناسب مع مسار ديمقراطي سلمي وطني إذا تضمنت تثمينا للدور الكردي).

 

انتصار أردوغان واستقرار حكمه هو دعم مزدوج للتيار الإسلامي في تونس، لكن أيضا للمسار الديمقراطي فيها


يهيئ كل ذلك لمقاربة تأثير ذلك على الديمقراطية العربية الفعلية الوحيدة، أي تونس. من الواضح أن هناك علاقة سياسية قوية بين أنقرة وتونس منذ 2011، بمعزل عمن هو في السلطة. مما لا شك فيه أن وجود النهضة في السلطة منذ آخر 2011؛ يعطي هذه العلاقة خصوصية عقائدية وأيديلوجية إسلامية. لكن هي الحقيقة تتجاوز ذلك في سياق حلف إقليمي وقف لاعتبارات معقدة مع المسار الديمقراطي، مقابل حلف وقف - ولا يزال - ضده، أي مع مسار الانقلابات. يضاف إلى ذلك التطور الكبير في المبادلات التجارية بين تركيا وتونس، مع ملاحظة أنها تتسم بعجز تجاري لمصلحة تركيا.

موضوعيا، انتصار أردوغان واستقرار حكمه هو دعم مزدوج للتيار الإسلامي في تونس، لكن أيضا للمسار الديمقراطي فيها. يبقى أن استغراق أنقرة في المستنقع السوري، وتسويغها للأطراف المتطرفة التي لا يزال ينشط ضمنها تونسيون، يضع أيضا هذه العلاقة محل مساءلة جدية في علاقة بتأثيرها على الأمن الوطني التونسي، ولو أن ذلك تراجع بعض الشيء مع التراجع الكبير لعدد التونسيين الملتحقين بسوريا وتنظيمات التطرف هناك، وأصبح الموضوع يتعلق أكثر بعودتهم. وهكذا، فنحن أيضا هنا إزاء علاقة ملتبسة تصبح إشكالية أكثر عندما يتم الخلط بشكل معقول أو مبالغ فيه بين حكم أردوغان وحركة النهضة.