قضايا وآراء

السلام في القرن الأفريقي وغياب الرؤية المصرية

1300x600
ثلاثة شهور كانت كافية لكي يقلب الشاب الوسيم، صاحب الاثنين وأربعين عاما، كافة الموازين، ويغير الثوابت، ويحول العداوات، ويرسم خريطة جديدة لعلاقات بلاده مع محيطها الإقليمي والدولي. وأنا هنا لست بصدد تعداد مناقب رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد أبي أحمد علي، المنتخب في آذار/ مارس الماضي والمنحدر من أقلية أورومو، ولكن الحديث هنا عن الخطوات التي اتخذها خلال تلك الأشهر القليلة، والتي استطاع خلالها أن يضع بصمته بشكل كبير على خريطة العلاقات الدولية في محيطه على الأقل.

ورث أبي أحمد مشروعا كبيرا (سد النهضة) تحلم بلاده أن يكون الرافعة الاقتصادية والحضارية لها خلال القرن الحالي، والذي سينقلها من مصاف الدول المتخلفة والفقيرة إلى مصاف الدول النامية الساعية.. إلى مزاحمة الكبار اقتصاديا على المدى البعيد، لا سيما وأن موقعها الجغرافي يؤهلها لكي تكون بوابة أفريقيا الشرقية في طريق التجارة العالمية في ظل إشرافها على ساحل هو ثاني أكبر ساحل على البحر الأحمر بعد المملكة السعودية، إلا أن هذا المشروع (سد النهضة) سبب مشاكل كبيرة مع الدول الأكبر في القارة (مصر). وبين التعامل الدبلوماسي والتلويح بالقوة، أو بالتدخل المخابراتي، أو تقوية الجار العدو اللدود لإثيوبيا (إرتريا) لإلهاء إثيوبيا عن مشروعها القومي في حرب تستهلكها، تعامل النظام المصري مع إثيوبيا لتشهد العلاقة بين النظام المصري وإثيوبيا موجات من الشد والجذب.

وفي مرحلة ما قبل أبي أحمد حاول النظام المصري ترهيب إثيوبيا من خلال القوة بعد أن شعر بورطة الاتفاق الإطاري الذي بدأت تفوح رائحته، فقد تواردت الأنباء مطلع العام الجاري عن إرسال النظام المصري قوات ممولة ومسلحة من الإمارات للحدود الإرترية، وهو ما فسره المحللون وكذا أصحاب القرار في إثيوبيا بأنه تهديد لأمن بلادهم.

وبين محاولة الترهيب وبين محاولة الترغيب دعا رأس النظام المصري؛ رئيس الوزراء الإثيوبي وقتها هايلاماريام ديسالين إلى تطمين الشعب المصري، حيث كان المشهد الأكثر دراماتيكية في المؤتمر الصحفي الذي جمع السيسي بديسالين، حين حاول السيسي أن يستنطقه بما يؤكد حفظ حقوق مصر في مياه النيل حين قال ما نصه: "مهم المصريين يسمعوا منك؛ عشان يطمنوا من كلامك".

وهو المشهد الذي تكرر بعد تولي أبي أحمد المسؤولية حين زار مصر، وفي المؤتمر الصحفي استحلف السيسي أبي أحمد بألا يضر مصر.

لكن الرجل الذي يعلم جيدا موقف مضيفه وقواته التي تقف على حدوده، أراد أن ينهي ذلك السيف المسلط على رقبة بلاده، فأخذ الخطوة التي من شأنها هدم مخطط النظام المصري ويحيدها باتخاذ قرار السلام مع العدو التاريخي إرتريا، والذي نص أهم بنوده على إنهاء حالة الحرب القائمة بين البلدين، وتعزيز التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية.

هذه الخطوة التي أخذها أبي أحمد إن دلت على شيء؛ إنما تدل على الفشل الذريع الذي يحققه النظام المصري في الملف الأهم والأخطر بالنسبة للشعب المصري.. النظام المصري الذي طالما حاول الظهور بمظهر الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، كُشف في هذا السياق بعد خطوة أبي أحمد واتفاقه مع إرتريا، والتي لم تكن لتتم إلا بعد موافقة أمريكية، والتي تضع استقرار إثيوبيا والحفاظ على وحدتها أولوية، باعتبارها دولة مركزية في المنطقة يعول عليها في الضبط والسيطرة كحليف تاريخي مهم في البقعة الأهم في خط حركة الطاقة. فالسلام الذي أبرمه أبي أحمد يحقق في اللحظة الراهنة كسبا للوقت بالنسبة للإدارة الأمريكية، ويجنب إثيوبيا حالة الحرب الأهلية داخليا والحرب مع إرتريا إقليميا، بما يفسر الثقل النسبي لإثيوبيا عند متخذ القرار الأمريكي، وهو ما يعني في المقابل أن الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة التي طالما تغنى بها النظام المصري لم تكن إلا وهما يصدره النظام، وأن مصالح هذا النظام في آخر أولويات ترمب الذي يحسن حلب المداهنين، كما أن تحرك أبي أحمد يؤكد انعدام الرؤية لدى النظام واستكمال مسيرة التخبط في الملفات المحورية والاستراتيجية لديه.

إن الإخفاقات التي يعيشها النظام في مصر منذ أن استولى على زمام الأمور في بلد من المفترض أن تكون صاحبة وزن إقليمي وقاري ودولي، بما تحمله من مفاتيح لقضايا كثيرة في المنطقة بخبرتها الطويلة في قضايا المنطقة والقارة، تنم عن أن نظاما فاشلا يستمر في خطاه لتدمير كل أوراق القوة التي تمتلكها مصر، ومن ثم إفقاد ذلك البلد الكبير ثقله الإقليمي والقاري والدولي، وهو ما يستلزم تحركا سريعا من قبل المخلصين في هذا الوطن لإنقاذه، قبل أن يتحول هذا البلد الكبير إلى جمهورية من جمهوريات الموز لا يصلح لحكمها إلا قرد.