كتاب عربي 21

هل كتِبَت شهادة وفاة مشروع "الجماعة الوطنية"؟.. النقد الذاتي (23)

1300x600
في مشهد الثالث من تموز/ يوليو (مشهد الانقلاب العسكري)، لم أستغرب بأي حال من الأحوال وجود بعض الرموز والأشخاص باعتبار أنهم يمارسون السياسة، تلك السياسة القميئة التي احترفوها وقالوا مرة إنها فن الممكن، ومرة أخرى أنها المصالح والحصول عليها بأي ثمن، وبدا هؤلاء يعقدون لمكيافيللي أبوة علم السياسة وهم من ورائه يتبعونه.

وبغض النظر عن تعريف السياسة، فإنني لا أعرف السياسة إلا محفوفة بالقيم، وأن القيم السياسة لها كل الأثر في تشكيل السياسة. قد يقول البعض إنني من جيل الرومانسية السياسية أو من هؤلاء الطوباويين أو المثاليين الذين لا يعرفون للسياسة معنى من معاني الواقع أو الواقعية.. وأؤكد أنني لست من المثاليين في السياسة، ولكنني من أنصار سياسة تؤكد على وظيفة كفاحية للعالم الذي تعلم قيمها واستمسك بها. ليست السياسة باللعبة الدنيئة أو القذرة، ولكنها كذلك حينما يمارسها هؤلاء الأقذار والذين يشكلون انحطاطا في الفكر والأخلاق، ومن ثم كان التعبير الأخير لدي أن هذه النخبة بعد أن كانت محنطة صارت "منحطة" في ممارستها؛ حينما صدرت من خلافاتها إلى عموم الناس، ففرقتهم وجعلتهم منقسمين متفرقين.

كانت تلك المقدمة، وكما أكدت أنني لم أستغرب حضور بعض هؤلاء من نخبة محنطة صارت منحطة، ولكنني.. وكأنني أصابتني الصاعقة حينما وجدت شيخ الأزهر في صدر المشهد وبجانبه "البابا" رأس الكنيسة المرقسية الأرثوذكسية في مصر.. إن هذين الرجلين بما يمثلانه من رمزية الأزهر والكنيسة؛ عليهما ألا يتورطا بأي شكل من الأشكال في هذا المشهد الخطير، الذي يعبر عن انحياز لحالة انقلابية، ومحاولة الإسهام في انقسام شعب، وفي إقصاء أي تكوين مجتمعي من نسيجه، ذلك أن هذه الرمزية تؤكد على معنى كيف يرى هؤلاء المجتمع والجماعة الوطنية، فيجعلون هذا وذاك في قلب اهتمامهما؛ لا يسهمان بأي حالة سلطوية، خاصة حينما تشكل هذه السلطة انقلابا خطيرا على مسار ديمقراطي. وإذا كانت بعض هذه النخبة التي أشرنا إليها يمكن أن تنزلق إلى كراهيتهم للإخوان أكثر مما يحبون الوطن، فيؤدي ذلك إلى تجاوزاتهم الخطيرة، فإن هذين اللذين يمثلان الأزهر كرمزية والكنيسة كمؤسسة إنما يعبر في واقع الأمر عن ارتكابهما خطيئة كبرى في حق الوطن والمواطن والمواطنة.

وكشاهد عيان ممارس حينما كنت منسقا للجنة العدالة الوطنية والمساواة، فإن ممثلا الأزهر والكنيسة كانا أقل هؤلاء الأعضاء فاعلية في هذه اللجنة، وقد ارتضى هؤلاء الذين يمثلون أطياف المجتمع سياسة وفكرا وثقافة (من أعضاء اللجنة)، وقد حرصوا على أن ينقلوا ملف العلاقة بين المسلمين والأقباط داخل الجماعة الوطنية من دائرة السلطة التي أممت هذا الملف لمصلحة الأجهزة الأمنية، والتي عبثت به أينما عبث. كما أصر هؤلاء على أن ينقلوا ذات الملف من الدائرة الدينية الكنيسة والأزهر إلى دائرة المجتمع المدني، باعتباره ملفا مجتمعيا وتنمويا، وبالاعتبار الذي يؤكد هذا الملف باحتكار المؤسسات الأمنية والمؤسسات الدينية إنما يشكل خللا في توصيف الإشكال.. للأسف الشديد أٌمِم الملف لمصلحة سلطة مستبدة تقتات في استغلالها له على صناعتين من الفرقة والفوضى، وبادرت إلى ملف أسمته الفتنة الطائفية لتقوم بكل ما من شأنه معالجة هذا الملف أمنيا؛ حتى يمكن أن تطلق يدها وهيمنتها على المواطن أيا كان دينه مسلما كان أم مسيحيا.

ومن المؤسف حقا أن يحيلنا الأزهر إلى مؤسسة أسماها "بيت العائلة"؛ لم تكن في واقع الأمر إلا محاولة تجميلية للدخول إلى العلاقة بين الأقباط والمسلمين من هذا المدخل الاحتفالي والشكلاني، فكان ذلك فلكورا احتفاليا بين الشيخ والقسيس، ليخرجا في كل مرة متوحدين في خطاب فحواه "كله على ما يرام"، وأن الشيخ يقبل القسيس. وظلت المشاكل الحقيقية ترعى في كيان هذا الوطن وفي النظرة إلى هذا الملف.. ولم تكن مؤسسة الكنيسة أفضل حالا، إذ سايرت الأزهر ضمن هذه السلوكيات الاحتفالية والفلكلورية، ولم تلتفت إلى أصل القضية. إننا في اللجنة حينما طالبنا الكنيسة بمعلومات مباشرة عن كل أماكن العبادة المسيحية التي عليها من إشكالات والاستعلام عن عدد الكنائس، رفضت المؤسسة أن تعطينا أية معلومات نستخدمها في طريق الحل للقضية من جذورها، وأحالونا بكل أريحية إلى أخذ تلك المعلومات لو أردنا الحصول عليها من جهاز أمن الدولة "الأمن الوطني".

كان استغرابنا شديدا من طريقة تلك المعالجة من مؤسسات ظننا أنها ستسهم في هذا الحل المجتمعي، إلا أنها سلمت ذلك الملف يدا بيد لمؤسسات هزلية اصطنعوها لم تقم بأي دور يذكر، ووقفت المؤسستان حجرا عثرة في جعل هذا الملف مدنيا وتنمويا.. بدا هؤلاء يصدرون الملف ويسلمونه يدا بيد لمؤسسات المستبد، وأصر هؤلاء على أن يشكلوا الغطاء للمؤسسات الأمنية لاستمرار العبث بالملف، سواء قصدوا ذلك أم لم يقصدوا.

أكثر من ذلك، سنجد رأس مؤسسة الأزهر يتحدث عن الثورة كـ"فتنة"، وظلت الكنيسة تحاول بشكل أو بآخر التملص من تلك الحالة الثورية التي تمثلت في ثورة الخامس والعشرين من يناير، وبدت تلك المؤسسات تتحدث بلسان السلطة لا تغادر خطابها، وتكمن بشكل مباشر أو غير مباشر بيد هذه السلطة، بل إن قيادة الكنيسة الجديدة قد اتخذت المواقف التي انحازت فيها إلى السلطة وإلى الانقلاب، ورفعت شعارات تشير إلى أن الإخوان (وليس العسكر) مسؤولون عن أحداث ماسبيرو.. قالها البابا بملء فيه؛ تزويرا للحقيقة والتاريخ، ظلت هذه الممارسات عنوانا على تكريس الاستبداد، وما إن نجحت الثورة، برز كل منهما (الباب وشيخ الأزهر) ليجد موطأ قدم، إلا أنهما ظلا في خدمة السلطة الحقيقية ممثلة في العسكر، وسارا في إطار تأمين هذه المؤسسات ضمن عملية تسييس وتجميل مواقفها لمصلحة المؤسسة العسكرية التي استغلت ذلك بامتياز في مشهد الانقلاب العسكري.

هنا وجب علينا أن نذكر بمشروع الجماعة الوطنية الذي تضرر بهذه المواقف. ورغم أننا قمنا بأدوار مختلفة للتمكين لهذا المشروع، ولحمة هذه الجماعة وتماسكها، وحل الإشكالات التي تتعلق ببؤر التوتر الديني والقضايا التشريعية والحقوقية التي تتعلق بملف العلاقة بين الأقباط والمسلمين، فإنه من المؤسف أن نقول إن الكنيسة (وكذا الأزهر) قد قامت بدور سلبي وضع الأقباط في حرج شديد. وإذا كان هذا مبررا عند عموم المواطنين، إلا أن النخبة التي اجتمعت أكثر من عقدين أو يزيد، والذي آل لها ترجمة هذا المشروع الممتد للجماعة الوطنية ممثلة في أفعال وسياسات ومواقف، فإن من خان هذا المشروع وأسهم في تسليمه لخطة الانقلاب في صناعة الفرقة وزراعة الكراهية للأسف كان بعضهم من هذا المشروع. لست في حل الآن للحديث عن أسماء بعينها، ولكن هنا فقط قفز السؤال إلى صدارة المشهد: هل كُتبت شهادة وفاة لمشروع الجماعة الوطنية؟! هذا ما سنحاول الإجابة عليه في مقال قادم.