مقالات مختارة

كيف تصبح إخوانيا رغما عنك في تونس؟

1300x600

ليس لديك ارتباط بالإخوان ولا تنتسب لهم من قريب أو من بعيد، ولست ناشطا في صفوفهم، بل لعلك لا تعرف عنهم وعن أفكارهم سوى النزر البسيط والقليل. ومع ذلك فقد تجد نفسك بين ليلة وضحاها إخوانيا من دون أن تشعر أو تدري، أو يكون لك الحق في الاعتراض أو في الرفض. 

يحصل لك ذلك بشكل شبه أوتوماتيكي في تونس، متى اقتربت من منطقة مقدسة ومحظورة تدعى الحداثة، وأصررت على أن تعرف أصلها وفصلها، وما الذي تعنيه بالضبط، أو أيضا في صورة ما إذا تحدثت عن الدين، وحاولت أن تستلهم منه بعض القيم والحجج البديهية والمعروفة. سيسمح لك عكس ما يحصل في معظم الدول العربية أن تتكلم بحرية عن الحكام، وتنتقد ظلمهم وجورهم وانحراف سياساتهم، وأن تقول عنهم ما تشاء وتصفهم بأنهم منافقون ومخادعون، وبأنهم غير جديرين بمناصبهم. لكن بمجرد أن تظهر في حديثك أنك تعيب عليهم تقصيرهم في الالتزام بقاعدة من قواعد الإسلام، أو بعدهم وانحرافهم عن نهجه، فسيأخذ الموضوع هنا طابعا آخر لا تحتمله حرية رأي أو فكر ومعتقد. 

وحتى لو حاولت مثلا أن تكرر مسلمات وقناعات ومعتقدات ثابتة في بلد عربي مسلم، كأن تقول مثلا بأن تونس ليست قطعة من أوروبا حتى تمشي مغمضة العينين في ركابها، وتتبعها في الكبيرة والصغيرة، وأن لها اسما وهوية عربية وإسلامية راسخة الجذور، أو أن ترفع صوتك منددا بمن ينتهك شهر رمضان على الملأ، أو بمن لا يرعى حرمة الدين ولا يفرق بين حلال وحرام، ويدعو جهارا نهارا للفسوق والشذوذ، ويشكك في صلاحية آيات من القرآن أو أحاديث من السنة لعصرنا الحالي، أو أن تجاهر بمعارضتك لنص المشروع الأخير للجنة الحريات والحقوق الفردية، وتراه مناقضا لتعاليم الإسلام، فإنك ستوصم على الفور بأنك إخوانجي ابن إخوانجي.

أما إن أنت ذهبت أبعد من ذلك ووصلت للحد الذي تذكر فيه الأمة أو الشريعة، فسوف يرد عليك أكثر من بوق بأنك جاهل ومتخلف وتعيش في القرون الوسطى، وسيقول عنك إنك أصولي متشدد تحمل أفكارا متطرفة تهدد أمن وسلامة واستقرار المجتمع التونسي، وأنك لا تفهم الإسلام أي إسلامهم، ولا تؤمن بالدولة المدنية التي هي دولتهم. 

في أكثر من موضع في تونس يبدو جليا اليوم أن حالة التقسيم المتعمد للتونسيين ما تزال مستمرة، وإن هناك أكثر من خلل في الحياة الاجتماعية والسياسية لبلد يتلمس طريقه نحو ديمقراطية عسيرة على فهم البعض، وصعبة على إدراك البعض الآخر.

إن هناك نوعا من معازل الأبارتيد السياسية ما تزال موجودة في تونس، فهي ولئن استطاعت بالأمس القريب فقط أن تتخلص من قبضة ديكتاتور حكمها لأكثر من عقدين بالحديد والنار، إلا أنها لم تتمكن إلى الآن من أن تبتعد نهائيا عن شبح الديكتاتورية. إنها تعيش رسميا حالة وفاق سياسي نموذجي ونادر بين النظام القديم وبين أكبر القوى المعارضة له في السابق. وهذا الوفاق الذي يصفه البعض بالخادع والمغشوش يحجب في الواقع تناقضات كبرى وربما يؤجل الحسم في كثير القضايا الخلافية المهمة لوقت غير معلوم.

ومع أنه كان في فترة ما مطلوبا وضروريا لتجنب الانزلاق في فوضى الصراعات الدموية المجهولة التي شهدتها بلدان عربية أخرى، إلا أن السؤال الملح الذي يطرح نفسه بقوة الآن هو إن كان قادرا على الاستمرار من دون شخصيتين محوريتين هما، الرئيس قائد السبسي والشيخ راشد الغنوشي.

إن أشياء كثيرة تدعو للقلق على مصير تجربة أطلقها الرجلان، قد يكون آخرها حالة الانسداد السياسي التي يعيشها البلد، والضبابية الشديدة التي تطغى على المشهد السياسي، ما يجعل من إعادة بناء الوفاق على أسس جديدة تجعله أكثر قدرة على الصمود أمام الهزات، وعلى الثبات والبقاء، بغض النظر عن بقاء أو رحيل مؤسسيه الاثنين، أمرا بالغ الأهمية. 

وعقدة الحل والربط هنا ليست قدرة الإسلاميين أو النهضويين على نسيان الماضي وعلى الصفح عن جلاديهم والتجاوز عن كل العقود السوداء التي ظلموا فيها وسجنوا وعذبوا وشردوا بين قارات العالم الخمس، بل في رغبة الطرف المقابل في الاعتراف بحقهم في أن يكونوا مكونا من مكونات مشهد سياسي تعددي ومتنوع.

لقد صممت تونس الحديثة على يد الرئيس الراحل بورقيبة حتى لا تتسع إلا لقائد واحد وحزب واحد وفكر واحد. ولم تكن عملية طمس روحها العربية والإسلامية طوعية أو اختيارية، حصلت بالإرادة الحرة للتونسيين وبإجماعهم، بل إنها تمت بشكل منفرد وقسري، قد لا يختلف كثيرا عن الممارسات الستالينية والسوفييتية المعروفة. لقد تفاخر البعض هذه الأيام في محاولة للبحث عن رابط بين خطوات بورقيبة في إصدار مدونة الأحوال الشخصية أواخر الخمسينيات، وبين نتائج تقرير لجنة الحقوق والحريات التي أحدثها الرئيس قائد السبسي، بأن الدولة هي التي فرضت منتصف الخمسينيات ما وصف بالإصلاحات الاجتماعية، فرضا على الناس وكأنها قادتهم إلى الجنة بالسلاسل.

والإشكال الحقيقي القائم اليوم هو ما إذا كانت تلك الدولة ستحاول أن تفرض من جديد ما يراه سدنتها وحفظة إرث بورقيبة مشروعا حداثيا لا قبله ولا بعده.لقد كانت سطوتها شديدة أيام الزعيم الراحل، ثم أيام بن علي، ومنعت كل صوت معارض لها ووجدت في اتهام كل رافض لخطها المناوئ للهوية بأنه أصولي أو متطرف، المبرر الشرعي للاستمرار في قمعها واستبدادها. واخترع حراس النظام مصطلح الاخوانجي نسبة إلى حركة الإخوان المصرية، ليوصموا به كل نفس محافظ يفهم الحداثة على أنها لا تعني الصدام الحتمي مع القيم الدينية. والغريب هو أن التطبيع الذي حصل بعد اختفاء بن علي من هرم السلطة بين الدولة والإسلاميين لم يسقط ذلك المصطلح، ولم يجعله فارغا من أي مدلول، لقد استعاد بريقه السابق وعاد ليظهر من جديد في خطابات بعض الأحزاب، وحتى في نقاشات بعض النخب الفكرية والإعلامية. 

ولعل الخلط الذي يحصل باستمرار بين حركة النهضة كحركة ذات مرجعية إسلامية قريبة من مرجعية الإخوان المسلمين، وبين انتماء تونس للإسلام هو الذي ينفخ الحياة في ما يراها من يطلقون على أنفسهم حداثيين وتقدميين وصمة يلصقونها بكل معارض ومخالف لأفكارهم. ورغم أن الإسلاميين أو أبناء حركة النهضة بالذات لم يقولوا يوما بأنهم هم الناطق الحصري باسم الإسلام والمدافع الوحيد عنه، فان تصويرهم على ذلك النحو يجعل من أي شخص يحاول الدفاع عما يراه انتهاكا للمقدسات يصير بالضرورة نهضويا أو إخوانيا.

ولا يتوقف خيال من يملكون مفاتيح تصنيف الناس عند سقف محدد، فهم قد يرون رئيس الحكومة المنتسب لحزب النداء علمانيا وحداثيا مرات، مثلما قد يصفونه بالإخواني مرات أخرى لمجرد أن حركة النهضة لا ترى حاجة لتغييره، مثلما قد يحولون أي شخص لا يقبل سلوكات ما إلى إخواني غصبا عنه. أما كم يبلغ حجم الإخوان في تونس بعد تلك التصنيفات؟ فلكم أن تتخيلوا العدد.

عن صحيفة القدس العربي