قضايا وآراء

ميراث سيِّد قُطب الملتبِس

1300x600
ينتمي سيد قطب لنوع من المفكرين والكتاب الذين يُحبَسون بمرور الوقت في التنوع الهائل لتأويلات كتاباتهم، وهو التنوع الذي قد يبلُغ اتساع نطاقه درجة التناقُض في كثير من الأحيان. وهذا لعمري من إمارات ثراء الفكر وتعدُّد طبقاته. هذا التنوع يجعل من علاقة قطب بما يُسمَّى "النسق القطبي" أو "الخطاب القطبي" أو "الفكر القطبي"، أو أي هراء "قُطبي" آخر؛ شيئا أشبه بعلاقة كارل ماركس بالماركسية من بعده، أو علاقة الأشعري بالتنوعات المتأخرة للمذهب المنسوب إليه، أو علاقة أي مفكر أو فيلسوف أو متكلم بمتأخري "مذهبه"؛ الذين يولِّدون مذاهب يُفترَض أنها انبثقت من فكره واقتاتت على تأويل مقولاته، ونسبة نفسها إليه؛ لتُحوِّل ممارسات المقلِّدين المعرفيَّة النص الاجتهادي البشري - حمّال الأوجه - إلى قوتٍ معرفي جامد لمذاهب وتيارات مُتباينة. وقد حدث هذا مع الوحي الإلهي المعصوم نفسه، وحدث مع المذاهب الفقهية والكلامية التي تراكمت على هامشه، ويحدث إلى اليوم؛ حتى لتنسِب كل الفرق الإسلاميَّة مقولاتها لصحيح الإسلام، وينسِب كل متأوِّلٍ لأصوله المفترضة ما يَعِنُّ له من الدلالات. وهذا بدوره يجعل نُقَّاد أي نسق مُعيَّن أسرى النسق الذي تصوَّروه، ومتى سقط البناء الذي توهَّموه؛ سقطت معه كل انتقاداتهم.

وإذا كانت السردية الأمنية عن سيد قُطب، بوصفها السرديَّة الأعلى صوتا بقوَّة السلاح، قد أوجدت ارتباطا دائما لازما (ارتباطا صلبا لسبب بنتيجة) بين من أخذ عن قطب وانتسب إليه، وبين الرجل نفسه، فإن هذا الارتباط "التآمُري" يلزم كشفه وإظهاره وإبراز ملامحه في حقبة "ما بعد الإسلام السياسي" التي ننتقل إليها حاليا، خصوصا في ظل السمعة الإعلامية "المشينة" لأكثر من نسبوا أنفسهم للرجل، وذلك حتى لا يتشوَّش أفق الفكر الحركي أمام المسلمين، بعد كسر حدة الشغف الوثني بالديمقراطية والمشاركة السياسية في الأنظمة ما بعد الكولونيالية؛ بتوهُّم إمكان "أسلمة" هذه الأنظمة الجاهليَّة من الداخل. إذ ربما كانت تصورات سيد للحركة هي الأهم على الإطلاق في العصر الحاضر، والتي قد ينعتق بها أكثر الإسلاميين من تصوراتهم المؤدلجة الساذجة ليدركوا معنى الدعوة إلى الله، بوصفها الهدف الوجودي الذي خلقوا حصرا للتحقُّق به. صحيح أن ذلك لا يعني بالضرورة أن كل نقاد سيد متآمرين أو عملاء للأجهزة الأمنية، لكن يعني بالضرورة أن ثمة تلاقي في المصالح بين الجيوب الاستخباراتية المتبقية وبين الكثيرين من القاعدين أصحاب الرؤى السكونية؛ الذين يتوهَّمون في "العلم" أو"المعرفة" أو "المناهج النظرية" أو "النقاء العقدي النظري" خلاصا مشيحانيّا من كل شرور العالم؛ تمهيدا للطوبيا "الإسلامية" أو الطوبيا التقنية أو أي جحيم سكوني آخر. إن الحركة الإسلامية تنتقل الآن سريعا لمفترق طرق وثنائية صلبة: الحركة أو السكون، فإما أن تعيد الحركة تعريف نفسها وتجديد دمائها اجتماعيّا؛ فتنكسر التنظيمات التي رانت على وجود الأمة، وإما أن تسكُن الشظايا الاجتماعيَّة ببقايا هذه التنظيمات الحزبية المتكلِّسة، التي "احتكرت" الحركة ووجدت من أصحاب التصورات السكونية من يُرسخ تصوراتها. إما حركة على مراد الله، وإما العودة إلى تيه التنظيمات المستعبَدة للدول القُطرية ما بعد الكولونيالية.
هذا الارتباط "التآمُري" يلزم كشفه وإظهاره وإبراز ملامحه في حقبة "ما بعد الإسلام السياسي" التي ننتقل إليها حاليا، خصوصا في ظل السمعة الإعلامية "المشينة" لأكثر من نسبوا أنفسهم للرجل

ولعل السبب الرئيس والأهم لكثرة اللغط حول كتابات سيد قطب وأفكاره أن أكثر من استنفروا لمناقشتها ونقدها هم من "المتفيقِهين" الذين يُنزِلون صنعة "الفقه" - ربما بغير وعي - منزلة أهم "علوم" الدين، أو منزلة الدين نفسه؛ إن جاز أصلا اعتبار هذا الدين مما تتراكم حوله "العلوم" اللاهوتية التي تُوقِفُ حركته وحركة المؤمنين به، وتضفي عليه طابعا كهنوتيّا سكونيّا. فهؤلاء "القانونيون" المقلدون أصحاب عقليَّات رياضية لا تستطيع التعامل مع المجاز، ومن ثم تفشل في التعامُل مع القرآن ومع أي محاولة حقيقية للحياة في ظلاله. يضاف إلى هؤلاء جمهرة من المتأثرين بالمتفلسفين العرب المحدَثين من أبناء المغرب العربي. وقد سمعت من بعض هؤلاء استشكالا على أسلوب سيد - رحمه الله - وأنه كان انطباعيّا وليس منهجيّا، فكان مما أجبت به: إن وضع "منهج" معرفي مُسبَق والتقيُّد به في العملية البحثية قد يكون مفيدا في الدراسات المختبرية المعملية الساكنة التي يسعى فيها "الباحث" للسيطرة على كل عناصر الموضوع، وهو وَهْم يمكن الاستسلام له - نظريّا - في المعامل فحسب. أما دراسة الواقع الاجتماعي- المعرفي المركَّب والظاهرة الإنسانيَّة شديدة التعقيد؛ فإن فكرة "النموذج" التي طوَّرها عبد الوهاب المسيري - رحمه الله - هي الأنفع لتقريب إنتاج قطب للأذهان، بما أنه إنسان أولا، وبما أنه مفكر حركي مرَّ بتحولات كبيرة. إذ أدرك رحمه الله (ربما في مرحلة تدوين كتابه: "خصائص التصور الإسلامي") أن التقيُّد بمنهج نظري وضعي دون الوحي يُعيق الحركة في الوجود بلا شك. ليست حركة "التنظيم"، الذي كان سيد يؤمن بضرورة التضحية به فورا إن تعارضت مصالحه مع مصلحة الدعوة إلى الله (بوصفها وظيفة كل مسلم)، وإنما حركة المسلم في الوجود في سبيل الدعوة إلى الله وبهدف وحيد هو هذه الدعوة نفسها. كل المسلمين في كل الأرض.
لم يكُن الرجل مُفكرا "إخوانيّا" تطور فكره بين صفوفهم، بقدر ما كان مُفكرا مُسلما ظن في الإخوان - آنذاك - تجمُّعا مسلما ناضجا يصلُح لحمل أفكاره

وربما لهذا مثلا أفاض قطب في الحديث عن وحدة الشهود، إذ تؤثر كل عناصره في بعضها البعض بإذن الله، فيتغيَّر شكل الوجود كله بتسبيحة واحدة كما قد يتغير مناخه بحركة من جناح بعوضة، ومن ثم أبرز سيد ضرورة انسجام حركة المسلم مع حركة الكون، باختيار المسلم للحاكمية الإلهية (أي هيمنة الوحي على التاريخ)، حتى تنسجم الحركتان على مراد الله، ويفيد المسلم من تسخير الكون المأنوس له. ولهذا رفض رحمه الله ميراث "علم الكلام" وأهدره كله، وإن لم يرفض الآلة الكلامية ذاتها. فأهدر المقولات الفرقيَّة التي صارت دينا لاهوتيّا سكونيّا يحجب الوحي. أهدره ليولِّد مقولاته الخاصة من الوحي مباشرة، ولهذا كان كل تركيزه وعنايته بالوحي دون غيره، ثم باستعادة الإنسان للوحي ليستمد منه مباشرة "منهجه" و"قواعد" حركته في اجتهاد دؤوب لا يُلزِمُ غيره من الأجيال، بل يجعل الاجتهاد فرض عين على كل جيل.

أما وقد تزامنت ذكرى استشهاد سيد قطب (آب/ أغسطس 1966م) مع استفحال الأزمة الكارثية التي تعانيها الحركة الإسلامية، فربما آن الأوان لمحاولة التعاطي المتأني مع فكره بمنأى عن انتمائه التنظيمي المتأخر للإخوان المسلمين، إذ لم يكُن الرجل مُفكرا "إخوانيّا" تطور فكره بين صفوفهم، بقدر ما كان مُفكرا مُسلما ظن في الإخوان - آنذاك - تجمُّعا مسلما ناضجا يصلُح لحمل أفكاره، لكنه اكتشف قُبيل استشهاده بقليل؛ أنه قد وضع حمله - آنذاك - على بعيرٍ أعرج، فكيف إذا أدرك منتسبيهم اليوم!