كتاب عربي 21

دولة الأخطاء المتراكمة

1300x600
كلما نزل المطر بمكان فضح الدولة. لم نعد ننتظر المطر صرنا مع كل مطر نعيد اكتشاف خراب دولتنا ومعرفة مواطن ضعفها، ولا ننتظر إصلاحا لما انكشف، فالحلول دوما من جنس الفساد: ردم الحفرة وتصوير الوزير مبتسما فوقها، وبث أغنية وطنية، وتكفير الثورة التي سمحت لمن هب ودب بنقد الدولة البورقيبية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها، وإنما يفضحها مطر عابر فيقول خبير الرصد الجوي واجهنا سحابا متمردا.

غرقت ثلاث مدن في شهر أيلول، والدرس واحد: مدن بنيت دون الحد الأدنى من التخطيط العمراني المتلائم مع معطيات الجغرافيا. مع كل خراب نكتشف أن سياسيينا الحاكمين والمعارضين على حد سواء لا يقدمون أفكارا جذرية للإصلاح، ولو على زمن طويل. إنهم يقعون في نفس حفرة السوشيال ميديا الشعبية: لعن الحكومة والمزايدة عليها بمشهد كرنفالي.

دولة لم تقرأ تاريخها العمراني

نحصي أكثر من عشرين مدينة وموطنا حضريا بونيقيا ورومانيا في تونس؛ بنيت كلها على مرتفعات جبلية ليس لأسباب تتعلق بالتحصن عند الحرب، ولكن لأسباب تتعلق بالمناخ ومراعاة التساقطات، فلم يحدث أن رأينا مطرا يجرف آثارا رومانية. دولة الاستقلال آثرت السهولة، فبنت في السهول وتخففت من كلفة تهيئة المنحدرات الجبلية للبناء عليها، لذلك نحصي مدنا عديدة مبنية في السهول ومجاري الأودية والمستنقعات، حيث تتراكم مياه السيلان فتغرق المدن والأرزاق. وفوق ذلك، نكتشف أن البنى التحية لم تأخذ بعين الاعتبار غضب الطبيعة، وإنما حسبت الكلفة الأقل من كل شيء كأنها مطمئنة إلى أن لا عواصف في الأفق على مدى الزمن.

الدرس العمراني الذي يقدم لطالب الهندسة خال من التاريخ، هو درس تقني؛ كأن الطالب غير ذي صلة بالأرض والتاريخ، لذلك نجد بيوتا جميلة مبنية في مصبات الأودية. الدولة تحصي عدد البيوت وتتبجح بالنمو العمراني، ولكن أي نمو هذا الذي يفضحه مطر عابر؟!

مخططو المدن (إن وجدوا فعلا) يقتصدون المسافات فيضيّقون الأنهج، فتتحول إلى محطات وتتحول السيارات الرابضة في الطرقات إلى سدود في وجه السيلان الجارف. الجميع يقتصد الكلفة، كأنهم يريدون مدنا مبينة من بلاستك ليجو (lego). كل شيء جميل من الخارج، ولكنه على شفير واد لا يمكن التحكم فيه.

لم يستفد أي معماري أو مسؤول حضري من مواقع المدن الرومانية وتاريخ المعمار القديم وفلسفته، حيث المرتفعات منجاة وصحة، وإن كانت كلفتها أعلى إلا أن عمرها أدوم. ونحن نراهم الآن يغرقون في الأخطاء نفسها التوسع في السهول، فلا يخسرون الأرض الزراعية فحسب، بل يضعون مصيرهم في مصب الوادي.

المدن الثلاث التي غرقت خلال شهر أيلول/ سبتمبر محاطة بمرتفعات ذات أرض صلبة، لكن المعمار انحدر إلى المصبات، وبعضه انحدر إلى ساحل البحر رغبة في تملك عقارات قابلة للاستغلال السياحي، وهناك كانت الكارثة.

الدولة التونسية لا تفكر للمستقبل

أمثلة التهيئة العمرانية والمنجزات التي عليها تكشف أن المخطط التونسي يفكر في الحل الظرفي، ولا يأخذ بعين الاعتبار احتمالات التطور البشري والتقني، لذلك فإن الحلول التي يتخذها هي حلول من ينظر تحت قدميه فقط.

ومن الأمثلة الصارخة على قصر النظر وغياب التخطيط للمستقبل، مترو تونس المخصص للنقل الحضري. لقد قلع بورقيبة التراموي الفرنسي بدعوى تعطيله حركة السير، لكنه بعد 10 سنوات أذن بمد خطوط مترو بالعاصمة، وعوض أن يمد بناء على توقعات توسع عمراني وبشري سريع، وضع المترو فوق سطح الأرض، فتحول بسرعة إلى عائق تنقل داخل المدينة، وصار سببا رئيسيا لاختناق مروري غير قابل للحل إلا بدفن المترو تحت الأرض. أي أن ما اتخذ كحل تحول إلى مشكلة، وصار حل المشكلة مشكلة أخرى، فلا ميزانية لحل مماثل.

على غرار المترو السطحي، نقرأ تاريخ التوسع العمراني في طول البلاد وعرضها. فالأحياء الجديدة (بل مدن بكاملها على غرار جندوبة وسليانة) استولت على الأراضي الزراعية وحولتها إلى مسطحات إسمنتية وتغافلت عن المرتفعات. والخلفية الموجهة لعمل الدولة ومؤسساتها هي دائما الكلفة الأقل في اللحظة، ولكن ما يقتصد في الحين يطلب إصلاحا بعد حين. وهكذا ستجر المدن عاهاتها العمرانية إلى أجل لا يعلمه إلا الله.

جرثومة الفساد تنتعش في غياب التخطيط

في شهر حزيران/ يونيو 2016 نزل مطر استثنائي (كمّا وتوقيتا) على منطقة في الجنوب الشرقي، فكسر كل الجسور الحديثة، بينما صمدت له جسور بنتها الدولة الاستعمارية منذ سنة 1919 (طريق قابس قبلي). شعر الناس بألم مضاعف للخسارات البشرية والمادية، ولانكشاف الغش وغياب التقدير السليم للمخاطر عند الإنجاز. في نابل، كما في بنزرت والعاصمة، لم تتضرر المباني التي ورثناها عن فرنسا، بل كانت الانهيارات في طرقات حديثة لم تصمد للسيول، بل إن الماء كان يفتت الإسمنت وينقله حصى كما يفتت رمل الأودية.

الغش يتعرى وقت السيول.. هذه قاعدة في تونس. الدولة لا تكشف فسادها، فسطل من الدهن يكفي ليقف المسؤول ضاحكا ويلتقط الصور عند التدشين الاحتفالي، ثم يختفي وربما يدعو أن لا يفضحه المطر.. الفساد هو الذي حكم في تونس حتى الآن، فلا المواصفات سليمة، ولا المراقب من قبل الدولة حكم ضميره. وضعت الدولة قوانين تحمي أعوانها، ولم يكتسب الشعب مؤسسات مدنية قادرة على الرقابة.

الرشوة والمحاباة ورأسمالية الحبايب هي التي بنت تونس الحديثة، وها هي تتعرى أمام شعب عاجز أقصى قدراته أن يصرخ في السوشيال ميديا. منذ التأسيس سار الأمر على قاعدة من فساد مرتب بالحزب الحاكم وبعلاقات لا شكلية مع الدولة. الإبداع الوحيد هو أن القهوة اكتسبت معنى جديدا غير معانيها النواسية.. القهوة هي الرشوة. تونس بورقيبة وابن علي بنيت بالقهوة.

Un pays à refaire

كتبت في روايتي "تفاصيل صغيرة"، المنشورة سنة 2010، أن تونس بلد وجبت إعادة بنائه. جعلت بطل الرواية الذاهل عن نفسه يسير في الطرقات ويصرخ أو يكتب على الجدران جملته الفرنسية (Un pays à refaire). كان يرى (كنت أرى) عيوب المدينة الناجمة عن عيوب السياسة، فحمّلته وزر الكلام. وها نحن بعد عقد من كتابة النص وبعد ثورة نعود إلى الصراخ في الشوارع والنصوص... إعادة بناء البلد بلا قهوة.

من لم يفكر بشكل جذري ويخطط لقرنين قادمين منذ الآن سيظل أبد الدهر يعاني عاهات مدن بنيت بالقهوة. لنقرأ التاريخ ولننظر في الجغرافيا. نعم يمكن نقل المدن إلى المرتفعات عبر وضع مخططات جديدة يتم تعميرها بالتدريج، فتجد الأجيال القادمة نفسها تسكن في أماكن لا تجرفها السيول، ولها طرقات تسمح بالحركة، وقنوات تصريف كافية لكي لا تفيض البواليع مع كل شؤبوب مطر عابر.

نحتاج 30 مدينة جديدة لا ينتهي القرن الـ21 إلا وقد عمرت وازدهرت وأنست الناس طعم القهوة الفاسدة. وإذا كان لهذا الجيل ولهذه الثورة من مزية على المستقبل، فهو دفع الدولة إلى سكن المرتفعات؛ خجلا على الأقل من بيت الشابي: ومن لا يحب صعود الجبال .. يعش أبد الدهر بين الحفر.