أفكَار

الجزائر.. السلطة تتعايش مع الإسلاميين بعد استبعاد "الإنقاذ"

قال بأن مشاركة الإسلاميين الجزائريين في السلطة كانت سببا في شق صفوفهم
لم يأخذ موضوع تحالفات الإسلاميين السياسية حظه من البحث والدراسة، وذلك لأسباب عديدة منها طول أمد العزلة السياسية التي عاشها الإسلاميون بسبب تحالفات النظم الحاكمة مع بعض القوى السياسية، واستثناء الإسلاميين من هذه التحالفات، بناء على قواسم أيديولوجية مشتركة بين الأنظمة ونلك التيارات.

لكن، مع ربيع الشعوب العربية، ومع تصدر الحركات الإسلامية للعمليات الانتخابية في أكثر من قطر عربي، نسج الإسلاميون تحالفات مختلفة مع عدد من القوى السياسية داخل مربع الحكم، وترتب عن هذه التحالفات صياغة واقع سياسي موضوعي مختلف، ما جعل هذا الموضوع  يستدعي تأطيرا نظريا على قاعدة رصد تحليلي لواقع هذه التحالفات: دواعيها وأسسها وصيغها وتوافقاتها وتوتراتها وصيغ تدبير الخلاف داخلها، وأدوارها ووظائفها، وتجاربها وحصيلتها بما في ذلك نجاحاتها وإخفاقاتها.

يشارك في هذا الملف الأول من نوعه في وسائل الإعلام العربية نخبة من السياسيين والمفكرين والإعلاميين العرب، بتقارير وآراء تقييمية لنهج الحركات الإسلامية على المستوى السياسي، ولأدائها في الحكم كما في المعارضة.

وقد سبقت الجزائر دول الربيع العربي بإتاحة الفرصة لمشاركة الإسلاميين في السلطة منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وتشكلت "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" باعتبارها الهيكل الجامع لتيار الإسلام السياسي المعاصر، وشاركت في الانتخابات وكادت أن تتولى قيادة الجزائر لولا تدخل المؤسسة العسكرية وتعطيل المسار الانتخابي..

اليوم يقدّم الكاتب والباحث السياسي الجزائري نصر الدين بن حديد، قراءة في تجربة الإسلاميين الجزائريين السياسية:

الجزائر.. السلطة تتعايش مع الإسلاميين بعد استبعاد الإنقاذ


صاحب نشأة ما يسمّى "الإسلام السياسي" مع ظهور تنظيم "الإخوان المسلمين" في مصر في ثلاثينيات القرن الماضي، عام بعد سقوط الخلافة العثمانيّة، أسئلة عديدة لا تزال مطروحة بإلحاح إلى يوم الناس هذا، حين تحوّل مجال السؤال من وسيلة مفترضة للبحث عن أجوبة إلى فضاء للصراع وتعميق الخلافات القائمة، سواء داخل العائلة الإسلاميّة ذاتها، أو في علاقة بكلّ الطيف غير الإسلامي.

أوّل هذه الأسئلة وأهمّها، بل وأكثرها خطورة على مستوى التعريف والمخرجات، سؤال يهمّ العلاقة مع الآخر، والمقصود بهذا الآخر، كلّ من لا ينتمي إلى نفس الذات على مستوى التعريف والهويّة وكذلك الوظيفة وأساسًا العقيدة.

من نافلة القول قصور الحديث عن "الذات الإسلاميّة" بمفهوم "الذات" الواحدة أو الثابتة أو الخاضعة للتأثيرات ذاتها، ممّا يسمح بالحديث عند التطرّق إلى "لون إسلامي" على مستوى التسمية المعتمدة إلى تجارب تؤسّس هي الأخرى داخل القطر ذاته أو في عديد الأقطار إلى تمايز على مستوى "اللون الإسلامي". الشيء الذي يلزم الحديث عن "قوس قزح إسلامي" أو هي "فسيفساء" تستوجب أحيانا إجرائيا إعادة طرح السؤال بخصوص علاقة كلّ فصيل أو لون بالجذر المؤسّس.

خصوصيات التجربة

الجزائر لا تخرج عن هذا السياق وإن تميّزت بما يمكن الجزم بأنّها تجربة إسلاميّة ذات خصوصيّات غير قائمة في غيرها من الأقطار. يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

1 ـ إنّ الإسلام (الدين والحضارة) ترسّخ زمن الإستعمار الفرنسي في صورة "القرص الصلب" المؤسّس والحافظ بل الضامن للهويّة الجامعة للشعب والمانعة من التغريب/الفرنسة.

2 ـ ارتباط الإسلام بالعروبة ارتباط وثيقًا، بل اندماج الاثنين في ذات واحدة، حين اتخذت مقاومة التغريب/الفرنسة من الإسلام سدّا حاميا، واتخذ الجزائريون من اللغة العربيّة أكثر من مجرّد لغة، حين اعتبروها السلّم الذي به يصلون إلى معرفة أصول دينهم.

3 ـ قيام ثورة تحريريّة جاء نصّها المؤسّس، أيّ بيان أوّل نوفمبر/تشرين الثاني 1954 مرسّخا لأهميّة الإسلام والعروبة، في تأكيد عليهما واعتبار "الجهاد" (ضمن المفهوم الديني المباشر) الوسيلة الوحيدة لتحصيل الاستقلال، دون أن ننسى "ميثاق طرابلس" (نسبة إلى العاصمة الليبيّة) الذي أكّد على: "أنّ الثقافة الجزائريّة ستكون ثقافة وطنيّة تقوم على اللغة العربيّة، وأنّ الإسلام المبرأ من كلّ البدع والخرافات التي أضرّت به، ستتمّ ترجمته بالإضافة إلى كونه عقيدة دينيّة في إطار عاملين اثنين هما الثقافة والشخصيّة".

الهوية والشرعية

من ذلك وجب أن ننتظر أواسط سبعينات القرن الماضي لنشهد أول صراع جدّي وخطير بخصوص "الهويّة الإسلاميّة" ودور هذا الانتماء وما يؤسّس له من عقيدة وما تنتج عنه من أيديولوجيّة، في بلورة السياسة العامّة للبلاد، لنشهد على مستوى التسميات والمعتقد وحتّى التعريف السياسي الإسلامي يقابله غير الإسلامي، سواء كان في السلطة من منطلق سياسي أو هو خارجها في معاداة أيديولوجيّة ظاهرة للدين الاسلامي ومفضوحة للغة العربيّة، حيث من النادر جدّا أو هو من المستحيل العثور على عروبيين يضعون أنفسهم موقف النقيض من الهويّة الإسلامية وكذلك إسلاميين يعادون الانتماء العربي للجزائر.

شكّلت أحداث تشرين أول/ أكتوبر 1988، وما تبعها من انفتاح سياسي مكّن الطيف الإسلامي برمته من شرعيّة قانونيّة، الاختبار الأهمّ، بل الأخطر، أمام هذا الطيف، بين أغلبيّة بقيادة "الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ" القائلة بإمكانية الوصول إلى حكم البلاد، بالانتخابات أوّلا وبدونها إن لزم الأمر، مقابل أقليّة نادت بتوسيع دائرة الحوار ليشمل قاعدة تتجاوز "الهويّة الإسلاميّة" للمشاركة في الحكم.

حين ننظر إلى علي بلحاج القيادي في "جبهة الإنقاذ" والمرحوم محفوظ النحناح مؤسّس "حركة مجتمع السلم"، ندرك من تناقض الخطابين أنّ المعني بتسمية "الآخر" لم يعد "غير الإسلامي" فقط، بل تعدّاه ليشقّ صفّا استطاع إلى ذلك الحين تأجيل عمليّة "الحسم" بين "الإخوة الأعداء".

ما تلا من تعطيل للمسار الانتخابي واخراج "جبهة الإنقاذ" من دائرة الشرعيّة، طرح داخل الطيف الإسلامي في الجزائر، الأسئلة الخطيرة التالية:

1 ـ ما هي الشروط الشرعيّة لإقامة "حكم إسلامي"؟
2 ـ هل يجوز الوصول إلى الحكم بأيّ ثمن؟
3 ـ هل الوصول يمثّل غاية في ذاته، خاصّة وسط وضع داخلي واقليمي ودولي رافض بل معاد لهذا الوصول؟
4 ـ هل يجوز مشاركة غير الإسلاميين في الحكم؟
 
دون الحاجة إلى بحث معمّق، يمكن الجزم أنّ علي بلحاج والمرحوم محفوظ النحناح يقدمان أجوبة متناقضة لهذه الأسئلة، ممّا جعل الفرقة والقطيعة بل العداوة قائمة بين الطرفين، خاصّة أن "جبهة الإنقاذ" صارت ملاحقة وصاحبة جناح عسكري هو "الجيش الإسلامي للانقاذ"، في حين قرّر الراحل محفوظ النحناح المشاركة في الحكومة، في عرض يعلم هو قبل غيره أنّ المطلوب تزكية السلطة وليس المشاركة في اتخاذ القرار وصياغة السياسات.

سبب الانشقاقات 

منذ تلك اللحظة وإلى يوم الناس هذا، شكّلت مشاركة الإسلاميين، أو بالأحرى "المشاركة الإسلاميّة" بابا لكلّ التأويلات الممكنة، سواء بخصوص الفائدة المرجوّة من خلال هذه المشاركة أو (وهنا الخطورة) النوايا القائمة من وراء هذه المشاركة، ممّا جعل تعريف أيّ "حزب إسلامي" في الجزائر يكون على قاعدة المسافة الفاصلة بينه وبين السلطة، بمعنى المشاركة من عدمها، بل ثبت بما لا يدع للشكّ مجالا أن الانشقاقات والانشطارات التي عرفتها الأحزاب الإسلاميّة في الجزائر جاءت بسبب المشاركة من عدمها، بل إنّ شكّلت "المشاركة في الحكم"، أداة الفرز الأهمّ داخل "حركة مجتمع السلم" أثناء مؤتمرها الفارط، حين فاز أمينها الحالي عبد الرزّاق مقري مستندا إلى تيّار "رفض المشاركة"...

حين النظر عن قرب إلى مجمل الطيف الإسلامي في الجزائر، نجد أنّ الاهتراء سمته، منها من اهترأ بفعل الزمن مثل "الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ" بفعل الابتعاد عن السلطة، وشيخوخة جيل القيادة وعدم ظهور أو تمرّس الجيل الصاعد ممّا يجعل "تمرير المشعل" أمرًا صعبا. في حين تعاني "أحزاب المشاركة" من الاهتراء هي الأخرى، حين تحوّلت المشاركة إلى طعم في ذاته، حين تمّ تبادل التهم وحتّى الشتائم، ممّا دفع عددا كبير من الإسلاميين إلى اعتبار عمّار غول مؤسّس حزب "تأج" (تجمّع أمل الجزائر) المنشق عن "حركة مجتمع السلم" سنة 2012، مجرّد "واجهة إسلاميّة" لا غير يزيّن بها النظام واجهته بحثا عن تعدّد الألوان.

وجب من باب الأمانة الإشارة إلى أنّ الاهتراء أصاب الساحة الحزبيّة بكاملها، بدءا بحزب جبهة التحرير الوطني وشريكه التجمّع الوطني وصولا إلى كوكبة الأحزاب المجهريّة الدائرة في ركاب السلطة، حين تراجعت نسب المشاركة في الانتخابات لتمسّ أحزاب السلطة والمشاركة في الحكم كما غيرها من أحزاب المعارضة، الإسلاميّة خاصّة، ممّا يعني وجود أزمة خطاب سياسي تشمل الأحزاب جميعها بما فيها الأحزاب الإسلاميّة أو ذات التوجه الإسلامي.

في ظلّ الوضع السياسي القائم في الجزائر يمكن الجزم بالتالي:

1 ـ لا مانع يقف في وجه قيام تحالفات بين أحزاب إسلاميّة وأخرى غير إسلاميّة، حين قامت في السابق تجارب لم تعمّر طويلا.

2 ـ يستحيل الحديث عن معارضة ذات برنامج بديل فعلا، حين تراجع هامش المبادرة لدى هذه الأحزاب أمام ملاحقات ما تراها هفوات النظام وزلاته.

3 ـ الطيف الإسلامي لا يزال تشقّه خلافات شخصيّة بل هي أزمة زعامات تقوم [وهذا الخطير] على قاعدة المشاركة في الحكم وثانيا على أساس استثمار هذه المشاركة سواء للاستقواء من قبل المشاركين أو «التخوين» من قبل المقاطعين، بما في ذك داخل الحزب الواحد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب وباحث جزائري في شؤون الحركات الإسلامية