كتاب عربي 21

من أحوال الثقافة في تونس

1300x600

يناقش التونسيون جميعهم في الليلة الفاصلة بين 5 و6 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018؛ التحوير الوزاري، حتى قبل أن يصدر البيان الوزاري وقبل أن يمثل الوزراء الجدد أمام البرلمان لنيل التزكية الشكلية. النقاش يتناول الشكل الخارجي للحركة السياسية التي توهم بالحياة، ويغفلون أمرا مهما: ما هذا التحوير إلا حركة في السطح تشبه تجعد موج البحر، ولا تكشف الركود الداخلي لمجتمع لا ينتج ثقافة فيكتفي باللغو السياسي الأقرب إلى لغو المقاهي في روايات محفوظ ما قبل 52. الفقر الثقافي التونسي أجدر بالنقاش، خاصة ومهرجان السينما يعيد إنتاج نفسه بكل السطحية التي مجها قطاع واسع من المهتمين بالثقافة.

صراع أيديولوجي ضرب الثقافة في مقتل

الساحة الثقافية التونسية الآن مؤدلجة حد النخاع. هذه حقيقة عينية؛ الفاعلون الثقافيون في جميع المجالات من تيار فكري واحد، هو اليسار، وقلة غيرهم لا وزن لها ولا تأثير؛ لا لفقر في الإبداع والخلق/ بل لعجز عن اختراق الأسوار العالية التي سجن فيها المثقفون اليسار الثقافة التونسية. القلعة محكمة الغلق، ومفاتيحها في وزارة الثقافة التي تقع تحت هيمنة التيار اليساري منذ نشأتها.

اشتغلت الوزارة بأحزمة من مثقفي اليسار تداولوا عليها تباعا باحتكار اللجان المخولة بإسناد الدعم المادي للمنتجات الثقافية، وعملوا على تقديم صورة واحدة للثقافة التونسية، معتمدة مقاييس محددة يقولون إنها التقدمية، مغلقين الباب بإحكام على كل فكرة تأتي من خارج هذا الأحزمة. فجعلوا السياسيات الثقافية العمومية تمول أفرادا ومجموعات فئوية تنتج نصا واحدا على المسرح وفي السينما، وفي الرواية والقصيدة.

ينتج اليسار نصا واحدا يلتحف التقدمية؛ مصورا كل إنتاج غيره رجعيا متخلفا.. يستهدف الحصار الخصم الأيديولوجي الإسلامي الذي للصدفة ليس له بعد إنتاج ثقافي يمكن وصفه بالمنتج الثقافي الإسلامي.. في الأثناء، توجد أصوات سينمائية حرة وأخرى تكتب الرواية والقصة والشعر، لكنها تظل اسماء مجهولة حتى تفنى. تنكشف هنا معضلة تتجاوز الصراع الأيديولوجي إلى حالة من الفقر الثقافي الشامل.

النص الواحد مقابل اللانص

الإسلاميون مصابون بفقر ثقافي، منذ مرحلة التأسيس (تاريخ الإخوان المسلمين).. ميراث يستنكف عن ابتكار صورة للعالم تقدر أن الثقافة ركن مهم في بناء الفكر والإنسان وبوسائل الثقافة الحديثة. يقابل ذلك تضخم في خطاب تربوي للوعظ والإرشاد الأخلاقي؛ لصناعة الإنسان العابد التقي. ينظر إسلاميون كثر بعين حاسدة للسينما الإيرانية (السينما الحلال) مثلا، لكنهم لا ينتجونها؛ عجزا أو خوفا (وهو الأرجح).. يقولون الشعر، لكنهم لا يخرجون عن قصيد رثائي يبكي المعاناة والقهر.. يكتب بعضهم الرواية، لكنهم يقتربون من مذكرات زينب الغزالي (نصوص ما بعد السجن، أو أدب السجون ما بعد الثورة في تونس).

ما يسمى بالمشروع الإسلامي هو مشروع تربوي ديني أولا وأخيرا، لذلك يقف في مكانه عاجزا أمام أشكال الفعل الثقافي المختلفة، فإذا تجرأ على بعضها وجهها للمشروع الأصلي (أي التربوي). فما زال الإسلامي المتعلم ينطلق من التحريم الديني التوراتي للفن، ويعتبر الالتزام قبل كل شيء التزاما دينيا، حيث تتجلى خلفية تكفيرية كامنة عند قراءة كل فعل ثقافي، ويعتبر الجسد الأنثوي في الفن ذريعة للتحريم.

يقابل ذلك جرأة غير محدودة عند اليسار العربي عامة، والتونسي خاصة، في مجال الخلق الثقافي. هذه الجرأة خلاقة فعلا، وقد وفرت تراثا أدبيا وفنيا غزيرا، وله أعلام يهتدى بهم، لكنها في لحظة الصراع الأيديولوجي انحرفت إلى الإقصاء الثقافي؛ مستعينة بوسائل الدولة التي احتكرها اليسار، والتي منحتها إياها السلطة الحاكمة كرشوة للفوز بقوتها الإبداعية في محاربة الخصم السياسي الإسلامي. والتجربة التونسية في هذا علامة ودليل.. الانغماس في الأيديولوجي جعل المنتج الثقافي اليساري نصا واحدا مقابل اللانص الإسلامي.

الثقافة تحتاج إلى معجزة تأسيسية

يشكو الكثير من إعراض الناس عن الثقافة المنشورة الآن (قراءة وفرجة)، لكنه إعراض مبرر لم يعد الكثير يجد نفسه في ما يعرض عليه. لقد ملّ الناس النص الواحد بصيغته اليسارية المدان، ولم يجدوا بديلا، فضلا عن الكسل الثقافي العام في مجتمع يشقى من أجل لقمة العيش المكلفة.. غني عن القول هنا أن وسائل الاتصال الحديثة قد أراحت الناس من التنقل إلى الثقافة. فاليوتوب - على سبيل المثال لا الحصر - وفّر بدائل فرجة ومتعة غير محدودة في تنوعها؛ ساهمت في الكسل الثقافي، لكن الثقافة تظل حاجة ملحة. هنا وجب القول إن التأسيس الثقافي يحتاج جرأة تأسيسية تمر بالضرورة عبر تحرير الثقافة من الاستعمال السياسي للثقافة.

سياسات الدعم الثقافي

  تونس قضت على الثقافة، ومنعت تطورها، ليس لجهة ممارسة الرقابة، فقد ضعفت الرقابة الرسمية على المكتوب حتى زمن الدكتاتورية (إذ تم إلغاء إجراء الحصول على الإيداع القانوني المسبق في وزارة الداخلية)، ولكن لا تزال أحزمة اليسار الثقافي المحيطة بالوزارة والدعم المسبق؛ فعالة بشكل قاس، وقد صار كسرها بإلغاء الدعم أمرا ملحا، حتى يتساوى المبدعون أمام الجمهور بقوة الإبداع لا بقوة الدعم.

يستطيب الإسلاميون الترذيل الأخلاقوي للمنتجات الفنية "الثقافية"، فيستعفون بذلك من المشاركة ويبررون كسلهم أو عجزهم. ويستطيب اليسار ما يستطيب الإسلاميون، إذ يوفر لهم ذلك ساحة فارغة من منافس محتمل. ينتهي الأمر بساحة ثقافية فقيرة وعاجزة عن التطور، وجمهور معرض عن الثقافة ومغرق في اليومي الشقي. وجب خروج الدولة من توجيه الفعل الثقافي، وهذه خطوة مهمة في طريق التأسيس والإبداع الحر.

من أين يبدأ التأسيس؟

الحاجة إلى تحرير الثقافة من الاستعمال السياسي توازيه حاجة إلى تحرير الثقافي من الأيديولوجي لدى طرفي الصراع الثقافي (يسار حداثة تقدمية مقابل إسلام تربوي محافظ أو رجعي). هذه مواقع حصار للثقافي انتهت صلاحيتها، وفُرض التأسيس خارجها.

البدء يكون:

- من إنهاء احتكار اليسار لصفة التقدمية في الثقافة، فاليسارية لم تعد مقياسا في الأدب والفن، أي في الثقافة عامة، فما هي إلا نص من ضمن نصوص متعددة.

- من خروج الإسلاميين من حفرة التربوي الأخلاقوي المدين للحرية الثقافية.

- وقبل كل ذلك، إنهاء القول بأن الثقافة موضوع للصراع بين اليسار والإسلاميين، فهما نص واحد تقتله الأيديولوجيا.

الثقافة توجد خارج هذا الصراع؛ الذي هو في جوهره صراع سياسي يستعمل الثقافة تحريرا أو ترذيلا.

حتى يجد مثقفون متحررون من الأيديولوجيا من هذا الصراع نقطة البداية، ستظل الثقافة في تونس (في المنطقة العربية عامة) محتكرة ومحاصرة، ويظل الجمهور معرضا عن معارك لا يجد فيها متعته الإبداعية.