كتاب عربي 21

الإخوان بين فجوتين: فجوة الأفكار وفجوة الأجيال.. النقد الذاتي (40)

1300x600
من الملاحظات الدقيقة والعميقة، لباحث واعد من شباب الإخوان (أشرت إليه في المقالين السابقين) أبدى الأستاذ ياسر فتحي في بحثين إضافيين ملاحظة في بحثه الثالث، والمعنون "شباب الإخوان في مصر بين شمولية الإسلام ومحدودية التطبيق"، بأن "الفجوة الجيلية" إنما ترجع في أصلها لفجوة في الأفكار، وأن برامج التثقيف لم تنهض في الإجابة على أسئلة الواقع وإشكالات الجيل؛ بما يمثله من إدراك للواقع مختلف عما ساد ونقل ودرس من جيل سبق، إدراك يتحرك لرؤية الواقع كما هو مرتبطا بمعطياته وموجباته وقضاياه وإشكالاته، وليس إدراكا للواقع وفق رغباته، بل كان كذلك إدراكه للواقع، مستشرفا تجدده وتعقده وتمدده. ولم يكن هذا الإدراك من جيل الشباب انهزاما أمام الواقع أو خضوعا لإملاءاته، كما لم يكن ذلك تحكيما له على قاعدة الانبطاح أمام الأمر الواقع، بل كان هذا الإدراك غير مانع من تعلقهم بأشواق التغيير والرغبة في التعرف على قدراته ومساراته، وكذلك البحث عن آليات التغيير وأدواته والقدرة على تحديد وتحقيق غاياته، واشترك في ذلك مع أشواق عموم الشباب في مصر يتكلم بمقالهم ويحمل ذات همومهم.

نقترب من مرور سبع سنوات على ذكرى خروج الجماهير (تجاوبا مع دعوات وتحركات شبابية) في كانون الثاني/ يناير 2011؛ لتنادي بإسقاط النظام، وترغب في بناء نظام جديد، يحقق الحرية والكرامة والعدالة. لكننا لا نجد دراسات معمقة ووافية تتعلق بالشباب المصري (سواء انتمى إلى تيار سياسي منظم أو لم ينتم) ممن شاركوا في التفاعلات العملية بعد 25 يناير 2011 وحتى الآن. بعض هذه التفاعلات كانت داخل تيارات وحركات وأحزاب وجماعات كانت قائمة قبل 2011، وتطورت تفاعلاتها بعد ذلك، وبعضها كانت تحاول بناء أطر جديدة لتيارات أو حركات أو حملات أو أحزاب تحاول استيعاب المتغيرات الجديدة، وتواكب مطالب وطموحات وآمال الناس.
لا نجد دراسات معمقة ووافية تتعلق بالشباب المصري (سواء انتمى إلى تيار سياسي منظم أو لم ينتم) ممن شاركوا في التفاعلات العملية بعد 25 يناير 2011 وحتى الآن

"وقد آن الأوان أن نكون أكثر شجاعة في الحديث عن أنفسنا، وأن يبادر الشباب من مختلف التيارات والاتجاهات لدراسة الأفكار والاتجاهات والتفاعلات والتجارب المختلفة التي مرّوا بها، بدل أن تترك هذه الخبرات تذروها الأحداث وتمحوها آثار القمع والاستبداد". ومن باب تلك الشجاعة البحثية التي أشار إليها الباحث، "تأتي محاولة الكتابة عن شباب الإخوان المسلمين في سلسلة متتابعة كمحاولة لاستثارة آخرين (من مختلف التيارات والأفكار السياسية)؛ للكتابة وإلقاء الضوء عن التكوين والتطلعات والاتجاهات والتفاعلات والخبرات المختلفة التي مثلّت زخما ووهجا مندفعا حينا، أو ألما وتراجعا وانحسارا حينا آخر، أو ربما اختلفت أشكال التفاعلات والاستجابات وانتقلت من طور لآخر".

بل إنه طرح سؤالا أكثر شجاعة من تناول الموضوع ذاته في محاولة لتحديد مهمة صعبة، وإن لم تكن في ذهنه، رغم انتمائه للحركة، مهمة مستحيلة، وهي محاولته في بحثه الإجابة عن سؤال: "ما هو تكوين شباب جماعة الإخوان المسلمين؟ وما أثر فكرة شمولية الإسلام على هذا التكوين وعلى الاستعداد والجاهزية لأي تغيير سياسي؟"؛ حاثا الشباب من أمثاله أن يواصلوا تلك المهمة "لعلها تكون توطئة لكتابات لاحقة عن شباب الجماعة واتجاهاتهم وتفاعلاتهم منذ كانون الثاني/ يناير 2011 وحتى الآن.. لا نبتغى بذلك إلا إفادة الباحثين والمهتمين، ومساندة من لا زالوا يفكرون، ويتعلمون، ويبحثون عن مستقبل أفضل، ننعم فيه بالحرية والكرامة، ولا نرى فيه فسادا ولا استبدادا.. عسى أن يكون قريبا".

وفي تعبيرات وبلغة كاشفة وصريحة وفارقة، أشار الى حال الأُسر، وما أدراك ما الأُسر وما تركته من آثار على حالة الوعي والإدراك، وبما شكل ذلك من بيئة نفسية تجعلهم أقرب للانخراط.. "يبدو هناك تعلق قديم بين نظام الأسر وبين الضغوط الأمنية، ويبدو أن الأسرة ستكون الوسيلة الأبرز التي يعتمد عليها الإخوان المسلمين في تكوينهم الداخلي، خاصة في حال تعرضت الجماعة للضغوط والضربات الأمنية. يقول حسام تمام: "فالأسرة درع حصينة لكل واحد من أعضائها، وهي من العضو بمثابة الأهل والعشيرة"، كما يذكر أيضا: "ينتظم الأخ في أسرة تجمعه بأفراده وتربطه بصلات تنظيمية واجتماعية تملأ عليه حياته/ بحيث لا يستطيع أن يفلت منها ويفكر في الإفلات".
أشار الى حال الأُسر، وما أدراك ما الأُسر وما تركته من آثار على حالة الوعي والإدراك، وبما شكل ذلك من بيئة نفسية تجعلهم أقرب للانخراط

ورتب على ذلك نتيجة لازمة، إذ "يتضح لنا مما سبق الفجوة الكبيرة بين فكرة شمولية الإسلام والنمط العملي للتكوين داخل الجماعة فيما يتعلق بالجانب السياسي أو الجاهزية والاستعداد للتغيير. فهناك غياب واضح لأي هدف سياسي محدد يتعلق بالشأن العام، وهناك غياب للتصور الحضاري وتقدير الحاجات والكفايات المناسبة المطلوب تحقيقها في أعضاء الجماعة، وتكون متناسبة مع الغايات الكبرى ومع تفسير فكرة شمولية الإسلام، والسعي لإقامة نموذج فريد للدولة الإسلامية، واستعادة الكيان الدولي للأمم الإسلامية، وتحقيق أستاذية العالم بتعبير(الإمام) حسن البنا".

وفي ذلك، أشار الى رسالة وقع عليها تشير لهذا الإشكال وبشكل مبكر.. "وبشكل أكثر وضوحا ذكرت الرسالة أن غالب ما ارتكز عليه الإخوان هي قضايا كلية وليست برامج ومشاريع وتفاصيل محددة".. وفي ختام هذه الرسالة، وفي حالة أقرب لاستشراف المستقبل يحيطها بعض القلق عن مستقبل التكوين داخل الجماعة، "أحس إحساسا – يصل في نفسي إلى مرتبة اليقين - أن هذه الخطوة (يقصد الانتقال العملي لتطبيقات فكرة الإخوان من الكليات والعموميات إلى التفصيل) من أقسى الامتحانات التي تواجه الجماعة، وبها سيتقرر بوضوح ما إذا كنا نستطيع أن نحتفظ بشباب الإخوان للإسلام أم سيتسرب هذ الشباب كالماء من بين أصابع الجماعة".

"تتطابق هذه التخوفات القديمة مع ملاحظات حديثة للباحث حسام تمام بأن جماعة الإخوان المسلمين "تمارس فعلا سياسيا - ينتمي إلى لحظة الدولة الوطنية الحديثة التي نعيش في ظلها - فيما ما زالت أطرها الفكرية والتربوية عاكفة على تداول أفكار ونظريات سياسية عتيقة تنتمي إلى ما قبل ظهور الدولة القومية". ويلحق بها ما أشار إليه الدكتور عصام العريان بحديثه عن الآثار الجانبية للحملات الأمنية على الجماعة، ومنها "الالتزام بمناهج تثقيفية محددة رغبة في التسهيل على الأفراد، فإذا بها تدفعهم إلى التبسيط والكسل المعرفي والقعود عن التحصيل وضعف الهمة في الدرس، وذلك إنما هو ثمرة المناخ العام الذي أفسد الشباب وأفسد العمليات التعليمية والتربوية التثقيفية العامة. وما أفراد الإخوان إلا نتاج المجتمع الحالي، فنادرا الآن أن تجد شابا مثقفا قارئا ذا عقل متفتح وقدرة على التمييز بين الآراء".
هكذا كانت فجوة الأفكار والإدراك من أكثر الأمور التي أدت الى فجوة الأجيال، وهذه ظاهرة تستحق مزيد من التقصي والفحص والبحث، والتدقيق والتفصيل

خلص الباحث في ختام هذه الورقة إلى "أن الأهداف والغايات الكبرى التي ذكرها حسن البنا في رسائله لا تنعكس على برامج الجماعة التثقيفية والتكوينية، كما أنه غلبت فكرة تماسك التنظيم على تطويره وعلى العمل على إعداد كوادر المستقبل، فالجماعة حافظت على فكرة شمولية الإسلام – نظريا - في أوقات الاستهداف والضغط الأمني والجمود السياسي، وظلت عالة على أدبيات البنا دون الاهتمام بالتقدم خطوات نحو الكوادر والمؤسسات والمشاريع المطلوبة لتحقيق هذه الفكرة الشاملة، فكأن الجماعة أجلّت هذا الاهتمام لمرحلة لاحقة لم تأت بعد".

"ربما يحتاج شباب الجماعة الآن - على حد قول الباحث الواعي الواعد - للنظر بعمق لإشارات القلق التي عبّرت عنها رسالة نظام الأسر عام 1953، وبين ما آلت إليه الأوضاع التكوينية الداخلية، حيث بقيت الفكرة الإخوانية ترتكز على عموميات وكليات ولا تتقدم نحو الريادة المنهجية والعلمية فكريا أو عمليا. صحيح أن هناك تبريرات تتعلق بتتابع الضربات الأمنية وما وصلت له الجماعة والحالة السياسية بشكل عام (خاصة في عهد مبارك) من حالة جمود تام، كما عبر بذلك نائب مسؤول قسم الطلاب بجماعة الإخوان المسلمين التابع لمكتب الإرشاد؛ بأن"الجماعة منذ عام 1995 قد دخلت في حالة من التجمد القسري (الجبس على حد وصفه) بسبب الضغوط والضربات الأمنية الشديدة التي فرضها نظام مبارك، وأن قسم الطلاب قد أعد دراسة قدمها لمكتب الإرشاد بعد خلع مبارك مباشرة تتحدث عما أصاب الجماعة من تجميد، منذ عام 1997 وحتى عام 2011، في القطاع الشبابي خصوصا، والجماعة عموما، وأن القطاع الشبابي لم يجد فرصته في العطاء وحمل عبء العمل والمسؤولية كما كان الحال قبل عام 1997"، غير أن نجاح الأجهزة الأمنية (عبر أزمنة وأنظمة مختلفة) في فرض حالة الجمود الفكري والسياسي والحركي لا يعد مبررا ليظل العقل الإخواني يراوح مكانه، ويبدأ دائما من نقطة البداية، محتفظا بنفس شعاراته وأهدافه وغاياته العظيمة والطموحة جدا".

هكذا كانت فجوة الأفكار والإدراك من أكثر الأمور التي أدت الى فجوة الأجيال، وهذه ظاهرة تستحق مزيد من التقصي والفحص والبحث، والتدقيق والتفصيل.