مقالات مختارة

من حسن الأسمر.. لحمو بيكا!

1300x600

في أواخر شهر يوليو 1990، زرت لبنان برا عبر نقطة حدود المصنع مع سوريا. الزيارة كانت لحضور معسكر الشباب القومي العربي الأول في بعلبك بمشاركة من شباب بعض الدول العربية. وفي أحد الأيام زرنا أعمدة بعلبك الأثرية. الأتوبيس الذي ركبناه كان يقوده شاب فلسطيني من «حركة فتح ــ المجلس الثوري» التي كانت ذات شنة ورنة، ونفذت العديد من العمليات ضد إسرائيل وضد بعض قادة منظمة التحرير في الوقت ذاته!!.

السائق ومعه مجموعة من زملائه «المناضلين» كانوا يستمعون بأسى وتفاعل كامل لأغنية المطرب الشعبي المصري الراحل حسن الأسمر «كتاب حياتي يا عين!!».

سمعة هذه الأغنية من وجهة نظر غالبية النخبة والمثقفين المصريين وقتها لم تكن جيدة. كانوا يرونها دليلا على الانحطاط وتدني الذوق العام، وزحف العشوائيات الفنية على التحضر الفني الرفيع. انطلاقا من هذا التوصيف والتحليل ذهبت إلى السائق الفلسطيني، وقلت له: كيف لثوار مناضلين مثلكم أن يستمعوا إلى هذه الأغاني الهابطة؟!.

كنت أعتقد وقتها ــ وأنا في قمة النقاء الثوري من وجهة نظري طبعا!! ــ أن المقاتلين الفلسطينيين يفترض أن يحاربوا العدو فقط، وإذا كان لديهم وقت فراغ، فعليهم أن يستمعوا لأشعار محمود درويش ومظفر النواب وأحمد مطر وأغاني مارسيل خليفة وأحمد فؤاد نجم أو الأغاني الوطنية، لفيروز وجوليا بطرس والشيخ إمام.

السائق صدمني وقتها وقال: هذه أفضل أغنية تعبر عن حالنا كلاجئين فلسطينيين، والذي كتبها كأنه لاجئ مثلنا، فهي قراءة دقيقة وتشخيص محكم لأحوالنا، وأن صوت المطرب يقطر حزنا وأسى وشجنا!!.

تجادلت مع السائق ورفاقه كثيرا على مدى أيام، وفي النهاية وجدت أنه من العبث الإصرار على تغيير وجهة نظرهم.

حينما عدت للقاهرة، اشتريت شريط حسن الأسمر، وقررت أن أستمع إليه بهدوء وتمعن، وبالطبع فعلت ذلك متخفيا ومن وراء ظهر أصدقائي في هذا الوقت، حتى لا يتم اتهامي بأن ذوقي الفني قد أصابه الانحطاط والتدهور!.

حينما سمعت الأغنية، تفهمت لماذا أحبها الشباب الفلسطينيون.هم لم يكن يعنيهم هل هي راقية أم شعبية، ولم ينشغلوا وقتها بالجدل حولها في مصر، كان يشغلهم فقط أن كلماتها الحزينة مع لحن مؤثر تمس وترا حساسا يذكرهم بقضيتهم، والظلم العارم الذي يتعرضون له منذ عام 1948. والذي حدث أيضا أنني بدأت أنظر للأغنية بطريقة مختلفة، وكان أصدقائي وقتها يستغربون ذلك!!.

طبعا هذه الأغنية الآن تعتبر رائدة ونموذجية للأغاني الشعبية المحترمة جدا، ومن الظلم مقارنتها بأي أغان شعبية حاليا، فهي تعتبر شديدة الكلاسيكية، مقارنة بغيرها اليوم!!.

المفارقة التي لا يريد كثيرون -ممن يقولون عن أنفسهم نخبة- التوقف عندها، هي أنه في السبعينيات كانوا يعاملون أغاني أحمد عدوية وكتكوت الأمير باعتبارها متدنية، وعندما جاءت التسعينيات صار عدوية رائد الأغنية الشعبية، والآن نترحم على أيام حسن الأسمر في التسعينيات. وإذا سرنا بالطريقة ذاتها والمعدل، فربما بعد عشرة أو عشرين عاما، قد نترحم على أيام حمو بيكا وشطة وبقية رموز المهرجانات!!.

كل كلامي السابق لا يعني شجبا أو تأييدا لأغاني المهرجان، بل ضرورة التوقف عندها وفهم سياقها بدلا من الاكتفاء بلعنها.

لو كان اللعن والحسبنة ولطم الخدود وشق الجيوب ينفع، لكنا تمكنا من تحرير فلسطين، لكن الأمور لا تسير بمثل هذا الاستسهال والتسطيح!!.

هذه الأغاني باختصار هي وليدة مجتمعها، وانعكاس حقيقي لفكره وثقافته وقيمه، وبالتالي بدلا من أن نلوم هؤلاء، علينا أن نلوم أنفسنا أولا ونسأل من الذي تسبب في انهيار التعليم وشيوع العديد من القيم السلبية؟!

هل هو حمو بيكا، أم الحكومات المتعاقبة وسائر قوى المجتمع الحية؟! أليس بيكا ورفاقه، نتيجة طبيعية لتكدس الفصول وتسرب التلاميذ، وانهيار الصحة وسائر الخدمات، والبناء العشوائي الذي أفرز كل ما هو عشوائي في كل المجالات؟!.

مرة أخرى بيكا وشطة ضحايا ونتيجة طبيعية لمجتمعهم.. والجاني الحقيقي هو السياسات المتراكمة التي قادتنا إلى هذا الدرك الأسفل منذ عقود طويلة!.

عن صحيفة الشروق المصرية