قضايا وآراء

الجبهة الشعبية في تونس ومعركة طواحين الهواء

1300x600
ورد في الأثر من روايات القرن السابع عشر؛ أسطورة دون كيشوت، ذلك الرجل الذي توهم أنه فارس مغوار يصرع كل من يواجهه، حيث انتهى به الأمر إلى الصراع مع طواحين الهواء وفي مخيلته أنه يصارع "شياطين لها أذرع هائلة تقوم بنشر الشر في العالم".

نستحضر هذه القصة ونحن نقارن حال دون كيشوت بحال مكونات الجبهة الشعبية في تونس، وهي جبهة سياسية ذات توجهات يسارية تكونت سنة 2012، إلا أن مكوناتها تعد من أقدم الأحزاب السياسية في البلاد حيث يعود تشكل بعضها إلى بداية الستينات، حيث أنه في خضم صعود الحركات اليسارية في العالم، تشكلت مجموعات تحمل هذا التوجه في تونس لمعارضة بورقيبة ثم ابن علي. ولئن كانت أفكار ماركس ولينين وستالين وإنجلز وماوتسي تونغ الشيوعية هي الأرضية الثقافية والفكرية الأساسية لأغلب الأحزاب المكونة للجبهة الشعبية، فإنها تسعى جاهدة لإخفاء ذلك؛ نظرا لتعارض هذا الفكر مع ثقافة الشعب التونسي وهويته. مع انطلاقتها، كان لهذه المجموعات مواقف مبدئية في الذود عن الديمقراطية والتعددية والعدالة الاجتماعية، وبذلت من أجل ذلك التضحيات، فكان منها الشهداء والسجناء والمناضلون.

ظهرت حركة الاتجاه الإسلامي (النهضة لاحقا) في بداية السبعينيات، وانطلاقا من أرضيتها الفكرية، اعتبرت الأحزاب اليساريةُ النهضةَ خطرا على البلاد ونمط المجتمع، وحددت العلاقة معها على أنها علاقة تناقض والمعركة معها معركة وجود، وهو ما جعلها منذ ذلك الوقت تخوض ضدها معارك ضارية في مختلف فضاءات المجتمع وخاصة في الجامعة، معتمدة في ذلك كل الأساليب العنف الثوري المستمدة من موروثها الشيوعي؛ معركة أضاعت بسببها هذه الأحزاب اتجاه بوصلتها السياسية، حيث رغم تميزها في البداية برفض نظام ابن علي واعتباره نظاما عسكريا انقلابيا، إلا إنها باركت لاحقا هجمته على حركة النهضة بداية التسعينيات، وفوضت بعض رموزها السياسية والثقافية لتبرير هذه الهجمة، رغم ما خلفته من مساجين ومشردين وشهداء وضرب للديمقراطية وحقوق الانسان، فكان جزاء ذلك أن يستفرد بهم نظام ابن علي لاحقا، ليذيقها طعم عصاه وسجونه، فضلا عن طعم الندم والخذلان.

حاولت بعض هذه العائلات اليسارية في العشرية الأخيرة من فترة حكم ابن علي، وبعد انكشاف الوجه الحقيقي لهذا النظام، تعديل بوصلتها لتكون معركتها في سبيل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وتقاطعت في ذلك مع جملة من المكونات الوطنية، حيث بلغ الأمر بحزب العمال الشيوعي إلى حد الإمضاء مع حركة النهضة على مبادرة 18 أكتوبر سنة 2005، وهو اقتراب لم يرق لبعض المكونات اليسارية الأخرى، وجعل حزب العمال الشيوعي في مرمى نقدها وتخوينها. أيضا أطراف يسارية أخرى لاقت نفس المصير بفعل محافظتها على الاقتراب من النظام حينها.

بدت هذه المكونات، إثر الثورة، مشتتة بسبب ما خلفته حقبة الاستبداد من خلافات بينها تميزت بتبادل تهم التحريفية والتخوين والرجعية.. إلى درجة أن تفرعت عن العائلة السياسية الواحدة أربعة أطراف وأكثر، وهو تشتت استمر إلى ما بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية الأولى سنة 2011، حيث ساهم فوز حركة النهضة بهذه الانتخابات في تجمعها وتشكيل الجبهة الشعبية سنة 2012، كائتلاف سياسي. وساهم هذا الفوز أيضا في إعادة هذه الجبهة السياسية الى مربع الصراع الأول، حيث اجتمعت على أرضية وهدف وسبب رئيسي ووحيد، وهو تخليص البلاد من حركة النهضة.

سخّرت الجبهة الشعبية لتحقيق هذا الهدف كل إمكانياتها، واستنفدت لأجله كل تكتيكاتها، حيث سخرت له أذرعها الثقافية التي كان بعضها هو نفسه الأذرع الثقافية لنظام ابن علي في معركته ضد النهضة، وأذرعها الأمنية أيضا، وهي الأطراف التي طالما اتهمت بعضها "بالبولسة" وبانتماء عناصرها للمنظومة الأمنية زمن حكم ابن علي.. وكذلك أذرعها النقابية، وهي التي استفادت من مظلة الاتحاد العام التونسي للشغل زمني بورقيبة وابن علي، وأحكمت السيطرة على بعض القطاعات فيه، حيث لا يخفى عن الملاحظ انتماء بعض قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل لأحزاب سياسية من مكونات الجبهة الشعبية.

أيضا، وفي هذه المعركة استُغلت الجبهة الشعبية عن وعي وعن غيره؛ لصالح أجندات خارجية وداخلية تقاطعت معها في نفس الهدف، وهو إسقاط حكومة النهضة وتبيان فشلها في إدارة البلاد. وراح ضحية هذا التوجه قياديان من قياداتها، وهما الشهيدان شكري بلعيد ومحمد البراهمي اللذان اغتالتهما قوى اشتركت مع الجبهة الشعبية في إسقاط التجربة الديمقراطية في تونس، واستُغلت خصومة الجبهة الشعبية والنهضة في اختيار ضحيتها ثم تحميل النهضة مسؤولية الاغتيالات وإدخال البلاد في فوضى، وتحقق جزء من هذا الهدف بسقوط حكومة الترويكا.

خسرت حركة النهضة في انتخابات 2014 المرتبة الأولى أيضا، إلا أن ذلك لم يكن لصالح الجبهة الشعبية، وإنما لصالح حزب نداء تونس الذي تمثل المنظومة القديمة أحد أهم روافده، والذي عاد لتصدر المشهد بفعل تحالفه مع الجبهة الشعبية إثر الاغتيالات السياسية.

لم يستطع الحزب الفائز في انتخابات 2014 تكوين حكومته دون النهضة، وهو ما لم يكن في حسبان الجبهة الشعبية، مما أصابها بخيبة مجددة وأضاقها جرعات الندم والخذلان مرة أخرى، معلنة يأسها من رئيس الجمهورية وحزبه والقطيعة معه، واستعادت خطابها السابق تجاهه وتجاه حركة النهضة طبعا.

حاولت الجبهة الشعبية طوال الفترة بين 2014 و2017 مواصلة معركتها الأساسية، معتمدة نفس الأسلوب دون تقييم أو مراجعة له، إلا أنها فشلت في الظهور بالقوة التي كانت عليها قبل الانتخابات، وزادها ظهور بعض الأصوات المنادية بالديمقراطية الداخلية وتغيير القيادة وتقييم السياسات المتبعة اختناقا، كما أن التطور الذي حصل عند حركة النهضة إثر مؤتمرها العاشر في مستوى التوجهات الفكرية والخط والخطاب السياسي؛ قلص من هامش المناورة عندها.

لم تحاول قيادة الجبهة الشعبية خلال هذه الفترة تقييم عملها الماضي، ولم تسع في تحسين أسلوبها وحل الإشكاليات المطروحة على أجندتها الداخلية بعقلانية تخرجها من حالة التكلس والجمود الأيديولوجي التي تعيشها، وإنما اتبعت أسلوب الهروب إلى الأمام، باحثة عن طريقة تعيد بها معركتها مع النهضة إلى المربع الأمني التي تجيد بعض مكوناتها اللعب فيه، أو فرصة للمناولة والتوظيف السياسي من جديد؛ علها تتمكن من تحقيق هدفها "الأسمى"،لتأتي الأزمة السياسية الأخيرة بين حركة النهضة ورئيس الحكومة من جهة، ونداء تونس شق حافظ قائد السبسي ورئيس الجمهورية من جهة أخرى، لتكون فرصة لقيادة الجبهة الشعبية لتحويل الأنظار داخلها من النقاش حول التقييم وتطوير الأداء والتداول الديمقراطي على المواقع القيادية؛ إلى معركة متجددة مع حركة النهضة، أيضا فرصة لنداء تونس لإعادة توظيف الجبهة الشعبية وإمكانياتها السياسية والثقافية والإعلامية والنقابية والأمنية في معركته مع يوسف الشاهد وحليفته حركة النهضة.

تحالف جديد في الكواليس غير معلن بين الجبهة الشعبية ونداء تونس شق حافظ قائد السبسي ظهر اليوم في التجمع المساند للإضراب الوطني في الوظيفة العمومية الذي دعا له الاتحاد العام التونسي للشغل، حيث شهدنا التحام نواب تونس بنواب الجبهة الشعبية في ساحة باردو، في مشهد يحيلنا رمزيا الى ساحة باردو في صيف 2013، وقد نشهده أيضا في فصول قادمة من المعركة الجديدة التي يبدو أن الخصم فيها بالنسبة لهما واضح، لكن المستفيد منها غير معلوم إلى الآن، ولكن الأكيد أنه لن يكون الجبهة الشعبية، والأكيد أيضا أن تونس ما زالت تأمل في أن تستعيد أحزاب الجبهة الشعبية بوصلتها، لتكون تيارا يساريا اجتماعيا ووطنيا متصالحا مع مختلف مكونات الشعب وهويته، ومتخلصا من رواسب الدكتاتورية، ومنافحا عن مطالبه بعقلانية واحترام لقواعد العملية الديمقراطية.