ملفات وتقارير

تونس.. السبسي يُوظّف اليسار للانتقام من حركة "النهضة"

قال بأن اليسار قبل طوعا أن يكون مجرد أداة في يد الرئيس السبسي الساعي للإنتقام من النهضة

تصاعدت حدة التوتر في الساحة السياسية التونسية، بعد الاتهامات التي وجهتها هيئة للدفاع عن قضية الراحلين شكري بلعيد القيادي اليساري ومحمد البراهمي القيادي في التيار القومي لحركة "النهضة"، أكبر حزب سياسي في البلاد، بالمسؤولية عن قتل بلعيد والبراهمي، مثلما تتهمها بتكوين تنظيم سري يخترق أجهزة الدولة ويهدد باغتيال رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي ورئيس فرنسا السابق فرونسوا هولاند.. 

وقد كلفت هيئة محامين نفسها بمهمة المخابرات وتزعم اكتشاف حقائق لا تعرفها الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الرسمية.. وعقد رئيس الجمهورية جلسة لمجلس الأمن القومي في الغرض، وتحدث بطريقة مسيئة عن حزب كان بالأمس القريب شريكا له في الحكم، يحضر مؤتمراته ويمدحه باعتباره قوة توافق واستقرار، وصار في نظره اليوم حركة إرهابية.

 

اقرأ أيضا: هل يستغل السبسي ملف الاغتيالات لتصفية حسابه مع النهضة؟
 
واستحال المشهد السياسي التونسي إلى أشبه ما يكون بحالة من العبث والسريالية يستخدم فيها الإعلام ومؤسسات الدولة الرسمية للهروب من القضاء أو للتعقيب على أحكامه، التي لا تروق لبعض السياسيين.. 

وبدا كما لو أن التاريخ يعيد نفسه، حيث يسار تونس نفسه مجددا مجرد أداة في يد رئيس مجروح من هزيمته أمام رئيس حكومته، فيقرر الانتقام من حزب سياسي ساند رئيس الحكومة، والتهمة الجاهزة الإرهاب والتنظيمات السرية، واليسار الوظيفي هو الصوت واللسان الناطق.. مثل ريح "الشهيلي" الحار، الذي يعرفه التونسيون جميعا، ينضج الثمر ليأكله غيره.

البورقيبية والدين واليسار

والحقيقة أنه لا يمكن فهم الصراع الحالي بين يساريي تونس وإسلامييها إلا بالعودة إلى الوراء لعقود لمتابعة طبيعة العلاقة بين التيارين الكبيرين في البلاد، وكيف تطورت مع الزمن، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم. 

بدأ التيار الإسلامي في الظهور في تونس نهاية الستينيات وبداية السبعينيات.. كان اليسار الماركسي ساعتها في ذروة حضوره وتألقه. فقد تأسس الحزب الشيوعي التونسي في عشرينيات القرن الماضي، ولم تأت السبعينيات من القرن الماضي حتى كان لليسار في تونس حضور بارز في الجامعات والنقابات. 

 

لا يمكن فهم الصراع الحالي بين يساريي تونس وإسلامييها إلا بالعودة إلى الوراء لعقود لمتابعة طبيعة العلاقة بين التيارين الكبيرين في البلاد

في تلك الفترة تحديدا بدأ التيار الإسلامي يظهر على السطح رويدا رويدا، مكونا من مجموعات صغيرة من الشباب المتحمس للدين الساعي لإعادة إحيائه بين الناس وفي الفضاء العام، في بيئة قدر أستاذ علم الاجتماع الدكتور عبد الباقي الهرماسي أنها لم تعد فيها رغبة في الإصغاء إلى قضايا الدين وهمومه، إذ تحصنت منها تونس وتجاوزتها من دون رجعة.

لم يكن ذلك التقدير صائبا ولا علميا.. ففي تلك البيئة الخادعة التي بدا أنها قطعت مع الدين، كان الناس متعطشين جدا له. ولم يكن ذلك شأنا تونسيا خالصا، فتونس لم تكن استثناء في المنطقة العربية والإسلامية، إذ ظهرت الصحوة الدينية متزامنة تقريبا في معظم البلاد العربية والإسلامية، بعد إخفاق المشروع القومي العربي، وتعزز نكبة فلسطين بنكسة العام 1967، وظهور عجز الدولة القطرية عن الإستجابة لأشواق شعوبها ومطالب شبابها في الكرامة والخبز معا.. رغم ذلك يصر الكثير من قادة اليسار على النظر للحركة الإسلامية باعتبارها نتيجة مؤامرة حكومية تستهدف اليسار التونسي، وهو أمر لا تسنده الوقائع، وغير قادر على تفسير ظهور التيار الإسلامي في مصر والخليج والشام وباقي دول المغرب العربي، إلا أن تصبح المؤامرة نظرية سهلة كسولة تفسر كل شيء..

لم يكن اليسار في صراع فقط مع الحركة الإسلامية.. لقد كان في صراع مع تاريخ المنطقة وثقافتها ورؤيتها لنفسها وللوجود وللعالم. وكان الموقف السلبي لليسار من الدين سببا رئيسيا في انحسار امتداده الشعبي. لكن قياداته لا ترى تلك الحقائق، وتصر على النظر لانحسار وجودها الفكري والسياسي باعتباره فقط نتيجة مؤامرة من رئيس الحكومة الأسبق محمد مزالي رحمه الله وتعريبه للفلسفة ولدفاعه عن اللغة العربية. 

ويستشهد بعض اليساريين على المؤامرة الحكومية في استخدام الإسلاميين لضرب اليسار بطباعة مجلة "المعرفة" وجريدة "المجتمع" التابعة للتيار الإسلامي في مطابع الحزب الحاكم، باعتبارها دليلا حاسما في كون الحركة الإسلامية مجرد مؤامرة حكومية على اليسار، دون أن ينتبه هؤلاء إلى الرؤية السياسية المعارضة للحكومة ولبورقيبة بشكل خاص، الثاوية في الخطاب الديني للتيار الإسلامي، الذي كان يتلمس طريقه نحو معرفة نفسه والعالم من حوله.

 

لم يكن اليسار في صراع فقط مع الحركة الإسلامية.. لقد كان في صراع مع تاريخ المنطقة وثقافتها


أفضت "اجتهادات" بورقيبة الدينية وصراعه المبكر مع الزيتونة والزيتونيين وإقراره مجلة أحوال شخصية لامست تحريم الحلال وتحليل الحرام، إلى حقن الساحة الفكرية والثقافية التونسية بروح فيها الكثير من التمرد على الرؤية الدينية التقليدية. وجاء اليسار ليذهب بتلك الروح إلى أبعد مدى ممكن لها.. 

كان اليسار ينظر للدين باعتباره من بقايا التطور البشري، وأنه "زفرة الكائن المضطهد" و"أفيونا للشعوب" آن أوان الصحوة منه.. هذه الرؤية الوضعية الساذجة للدين المأخوذة عن الأدبيات التقليدية الماركسية اللينينية جعلت بين اليسار وعمق المجتمع التونسي حاجزا كبيرا.. لكن ذلك الحاجز سرعان ما صار أشد سمكا بظهور التيار الإسلامي.. من هنا نشب الصراع الذي لا يزال يؤثر في الساحة السياسية حتى اليوم.

صراعات الثمانينات الجامعية مازالت حاضرة

في نهاية السبعينيات بدأ التيار الإسلامي يسجل حضوره في الجامعة التونسية.. واجه الكثير من العنف اليساري حتى أمكنه أن يفرض حضوره الجامعي.. بالعنف الشديد مُنع مؤذنون من الأذان في كليات ومبيتات جامعية كثيرة، وتم تمزيق حجاب الكثير من الطالبات، وتعرض الكثير من عناصر التيار الإسلامي للعنف "الثوري" اليساري.. صبر الإسلاميون حينا وردوا على العنف بالعنف حينا آخر.. لكن عنف اليسار لم ينجح في صد التيار الإسلامي عن النمو بل ربما عجل أكثر بانتشاره في مختلف الجامعات.

في مطلع الثمانينات تعادلت القوى بين تيار يتقدم وآخر يتقهقر.. ولم تنتصف الثمانينات حتى امتد نفوذ الإسلاميين لمختلف الجامعات. وحين انتهى عقد الثمانينيات كانت الجامعات تنتخب الإسلاميين بأغلبيات كاسحة كل عام.. وكان الصراع بين التيارين اليساري والإسلامي يراوح بين كثير من السياسة والعمل الدعائي وقليل من العنف المتبادل.. 

كانت الانتخابات النزيهة التي ميزت الجامعات التونسية طيلة عقد الثمانينيات أبرز ما ميز العلاقة بين الإسلاميين واليساريين. ولا تزال تلك الصراعات تحكم إلى اليوم العلاقة بين الطرفين.. فمعظم الفاعلين السياسيين اليوم من وزراء ونواب برلمان وقادة أحزاب ومنظمات مجتمع مدني وكبار الصحفيين ومالكي المؤسسات الإعلامية ورجال أعمال ومحامين هم في أغلبهم اليوم طلاب تلك الفترة.. والصراعات الحادة بينهم لا تزال توجه سلوكهم وتؤثر على مواقفهم، إلا من وقاه الله شر ذلك وأعطاه وعيا يتجاوز أسر الزمن ومرحلة الشباب.

ابن علي واليسار والتعليم والثقافة

بعد انقلاب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي على بورقيبة العام 1987، وانكشاف قوة الإسلاميين التي مكنت في آخر المطاف من إسقاط بورقيبة عبر احتجاجات استمرت لنحو 8 أشهر في الشارع، أدرك اليسار مدى هامشيته في المشهد التونسي، وقرر الالتحاق بالدولة باعتبارها آخر الحصون في مواجهة "الزحف الأصولي". وتنادت فصائل اليسار ومستقلوه في نقاشات علنية في مجلة "أطروحات" وفي صحف أخرى للالتحاق بصفوف الحزب الحاكم لصد التيار "الظلامي" من الهيمنة على البلاد.. هنا لم يعد لليسار مشروعا.. صار مشروعه منع مشروع الإسلاميين.. 

ذات الأمر يتكرر اليوم بعد نحو ثلاثة عقود كاملة، بقبول اليسار طوعا أن يكون مجرد أداة في يد الرئيس الباجي قايد السبسي الراغب في الإنتقام من حركة النهضة، التي رفضت مسايرته في إقالة رئيس الحكومة، فظهرت من الأدراج فجأة قضية "التنظيم السري"، كما قال الوزير الأسبق الازهر العكرمي، وهو قيادي سابق في حزب نداء تونس ومن أبرز خصوم النهضة التقليديين.

انضم مئات الناشطين اليساريين واليساريين المستقلين للتجمع الدستوري الديمقراطي، وكونوا هيئات تفكير في أعلى هرم الحزب الحاكم وأجهزة الدولة، ومن هناك بدأت أفكار تجفيف ينابيع التدين للقضاء على التيار الإسلامي.. وكان الرئيس زين العابدين ابن علي الجائع للسلطة والخائف من المنافسين يبحث عن رؤية إيديولوجية وجيش إيديولوجي يخدمه.. فكان اليسار جاهزا بالرؤية والخبرة التاريخية من صراعه الطويل مع الإسلاميين.. وكان اليسار جائعا جدا للسلطة باحثا عن حماية منها من الخصم الإسلامي الزاحف.. تولى اليساري الراحل محمد الشرفي وزارة التربية والتعليم، وكان هدف إصلاحه للتعليم نشر "العقلانية" وأن لا يتخرج من المدرسة التونسية "خوانجي" واحد.. وانبث اليسار في مؤسسات التعليم والثقافة والإعلام.. والهدف المركزي محاربة "الأصولية" والإسلام السياسي.

أعطى الرئيس المخلوع اليسار المتحالف معه التربية والتعليم وأجهزة الثقافة والإعلام وكل ما له علاقة بصناعة الرأي. لكن اليسار لم يكتف بذلك فقد تسرب أيضا إلى أجهزة وزارة الداخلية وإلى القضاء.. 

كان اليسار لسان النظام وقلمه والمنافح عنه سياسيا وقانونيا وحتى أمنيا.. وحين قامت الثورة كان أبرز ناطقين باسم الرئيس المخلوع يساريان معروفان: برهان بسيس وسمير العبيدي، وكانا من أبرز مناضلي اليسار الطلابي أيام دراساتهم الجامعية، وعمل العبيدي وزيرا عند ابن علي وشغل قبل ذلك في الثمانينيات خطة أمين عام للاتحاد الطلابي القريب من اليسار.

 

اقرأ أيضا: اليسار الثقافي ودوره في تثبيت البنية الجهوية-الزبونية للسلطة

حين قامت الثورة في العام 2011 كان اليسار قد فشل في تحقيق أي شيء من تحالفه مع الدولة.. بل لعله حقق نقيض ما كان يطمح إليه.. زاد التدين في المجتمع التونسي ولم ينقص، وضعفت العقلانية بين الناس وانتشرت ظواهر السحر والشعوذة والعرافة، وأنتج إصلاح التعليم تحت رعاية دولة القمع واليسار تيارا دينيا سلفيا منغلقا شديد الانغلاق، لا يزال إلى اليوم حضوره بارزا في معظم الأحياء الشعبية والجامعات، ولا يزال صراع الدولة مع من حمل السلاح منه مفتوحا على أفق زمني ممتد.. 

لكن اليسار الوظيفي الخدوم لم يتعلم من تجربة الاستبداد.. فبعد الثورة استعاد اليسار سيرته القديمة.. ليس له من هم سوى تجريم الإسلاميين، وتحديدا حزب حركة النهضة، لعله يستطيع الفوز في انتخابات لا منافس له فيها..

 

اقرأ أيضا: ماذا يريد الرئيس التونسي من وراء تحركاته الأخيرة؟