مقالات مختارة

السياسة في حياتنا

1300x600

عندما تندلع حرب مفاجأة على الحدود أو تقع دولة ومجتمع تحت احتلال أجنبي يقع الفعل والألم والخسارة على كل مواطن، هذا جانب مرتبط بالسياسة.


وعندما يصدر قرار بفصل الشبان عن الشابات في الجامعة أو تغرق المدينة بالأمطار والمياه بسبب سوء المجاري وضعف التخطيط، وعندما تصدم شاحنة مسرعة عمال يقفون على الناصية وتعجز المستشفيات عن استقبالهم لعدم امتلاكهم المال اللازم، كل هذا يدخل في مجال السياسة لأنه يؤثر على كل مواطن ومواطنة. بل بفضل الصورة التي تنتقل كل ثانية تحولت قضايا اغتيال معارض أو قتل الصحافيين لقضايا سياسية تؤثر على كل مواطن ومتابع. حتى قضايا الإعدام(في مسائل التعبير والاحتجاج السياسي) تحولت لقضايا رأي عام في ظل رفض هذه العقوبة من قطاع كبير من الناس.


لنفترض أن لون بشرتك أو فئتك أو طائفتك التي ولدت بها سببت لك حالة إقصاء أو اضطهاد. لقد منع غاندي المحامي في جنوب أفريقيا من ركوب حافلة و الجلوس في مقعد محدد بسبب أصله الهندي ولونه. إن سياسة التميز تلك حولت غاندي لأكبر مجاهد ضد التميز والعنصرية، فقد صنع سياسة جديدة أساسها المقاومة اللاعنفية بهدف تغير السياسة عندما تمارس الظلم بحق الآخرين.


إذن السياسة في جانب منها مقاومة للسياسة نفسها. مثلا لنفترض إنك اقتنيت كتابا ممنوعا. في هذا أنت تقاوم قانونا أقرته الدولة وحددت عقوبات له. لكن قراءتك للكتاب في مكان عام بل وتوزيعه على آخرين سوف يعني دخولك في حيز السياسي والسلوك المغاير الذي يتحدى قانونا يرفضه قطاع كبير من الناس.


وحينما قامت مجموعة من منظمة القاعدة في 2001 بعملية خطف طائرات أمريكية وإدخالها في أبراج وأبنية في كل من نيويورك وواشنطن أدان معظم مسلمي العالم العملية ولم يتعاطفوا مع صانعيها. لكن ذلك الفعل أثر علينا كلنا، فقد أعتقل آلاف المسلمين ممن لا علاقة لهم بالقاعدة، وتم تفتيش الملايين في المطارات بغض النظر عن موقفهم من ذلك الهجوم المدمر. وقد تم منع ملايين المسلمين من دخول الولايات المتحدة دون أدنى خطأ من قبلهم بحق الولايات المتحدة. إن من قاوم الصورة النمطية بحق المسلمين والعرب وطرح صور مغايرة لتشويه موقف معظم المسلمين مارس مقاومة سلمية سياسية في مواجهة إجراءات نتجت عن حدث لا علاقة لأغلبية المسلمين والعرب به.


إن السياسة هي الشيء الذي يقع بيننا وبين الآخرين. كل عمل يؤثر على الآخرين وتمارسه فئة في السلطة مع فئة خارج السلطة أو فئات داخل المجتمع، هو في حيز السياسي وحيز المساحة العامة. فأكثر ما يميز السياسة ويوضح مكانتها هو تأثيرها على كل ما له علاقة بالشأن العام. وبما أن الإنسان بطبعة لديه غريزة حب البقاء، فبطبيعة الحال سوف تكون لديه حاجات وضرورات ومصالح قد تصطدم مع حاجات وضرورات الآخرين.


حاجات الإنسان البيولوجية مثل المأكل والمشرب وحاجاته الروحانية مثل حرية التدين ومكانة الكرامة والنجاح، وحاجات الإنسان في حبه للثروة والسيطرة و بسط النفوذ تفتح أبواب النزاع والصراع بين الناس. لهذا سيقع حتما صراع وسيقع الصدام مع الرافضين للتسلط والمتمسكين بحقوقهم. هذا يؤدي لمواجهات مع الظلم والإقصاء كما حصل في الثورة الفرنسية والثورات الإنسانية والانتفاضات والحركات الإصلاحية الكبرى والثورات الديمقراطية في التاريخ.


ومنذ نشوء السوشال ميديا وبفضل تطورات غزت الإنسان منذ الثورة الفرنسية عندما فتحت مساحة الحرية والحقوق والمساواة بين الناس دخلت السياسة لكل بيت و كل مكان. لم تعد السياسة حكرا على فئة من الناس هم النخبة والأقلية، لم تعد السياسة حكرا على القائد والملك أو الرئيس أو رجال الدين، بل أصبحت شأنا عاما يمس كل إنسان ومواطن.


إن فكرة المواطنة كما نشأت مع الثورة الفرنسية والدولة الوطنية الحديثة خلقت فكرة الإنسان الحر، لكن تجارب الديمقراطية التي تطورت في القرن العشرين جعلت السياسة تعني حق الشعوب في ان تكون مصدر السلطات وهذا أعطى الأفراد في كل مكان الحق بتناول الشأن العام على كل صعيد.


ويمكن لهذا تعريف السياسة( وللسياسة عشرات التعاريف) على أنها: طريقة حل الخلاف والنزاع بوسائل الإقناع والمقايضة والمساومة والضغط في ظل آراء وتصورات ومصالح مختلفة. هذا يعني السياسة تعبر عن نفسها من خلال صيغ تتضمن تراجعا و تنازلا متبادلا لتحقيق اتفاق.


ولتحقيق الاتفاق عبر الاقناع والمقايضة والمساومة لا بد من وجود الحكومة والدولة، فهي أساسية للمجتمعات وللسياسة. لكن يجب التنبه بأن السياسة تطورت في العقود الماضية لتصبح أكثر تحررا من إملاءات القوة والأوامر والنواهي واكثر تلبية لتطلعات الناس وذلك بفضل الديمقراطية. بل أصبحت السياسة اكثر قدرة على بناء الأغلبية من خلال الإجماع السياسي الناتج عن تفاهمات وحوارات بل وصراعات ومساومات.


إن من يقول أنه بإمكان الإنسان أن يكون كائنا غير سياسي هو كمن يقول بعزلة الفرد الكاملة عن التفاعل الآخرين. فالإنسان كائن سياسي يتفاعل مع محيطه بما يلبي احتياجاته وضروراته الروحية والحياتية والنفسية والجسدية، وهذه الضرورات لا يمكن تلبيتها من قبل رئيس أو قائد أو حزب إلا بصورة مؤقتة ونسبية، بل تتطلب تلك الحاجات عملا جماعيا وفرديا ضمن أطر وأحزاب ومؤسسات، وهي تتطلب بنفس الوقت حريات مضمونة في إطار إعلام حر وحقوق ثابتة. 


كلما اختفت الحريات والحقوق كلما اضمحلت السياسة وأشرفت على الموت. منع السياسة وتجريمها انطلاقا من القول بأن الإنسان وجد ليأكل ويشرب ويطيع صانع القرار هو مثل منع الهواء والتنفس. فالشعوب التي لا تتدخل في السياسة ولا تشارك في تقرير شؤونها تصبح ضحية للظلم و لغياب النقاش العام. في حالة كهذه يتحول موت السياسة لموت للأوطان وللحضارة. إن إحياء السياسة حياتنا جوهري للمواطن المؤمن بحقوقه ودوره وأساسي لنمو الأوطان وتطورها.

عندما تندلع حرب مفاجأة على الحدود أو تقع دولة ومجتمع تحت احتلال أجنبي يقع الفعل والألم والخسارة على كل مواطن، هذا جانب مرتبط بالسياسة.

عن جريدة القدس العربي اللندنية