قضايا وآراء

المعتقلون لدى الأنظمة العربية.. يا وحدكم

1300x600

هل السجناء من ذوي النشاطات المدنية والسياسية السلمية، في المعتقلات العربية، هم مشكلة لعائلاتهم وحسب، أم إنهم قضية تخص الشعوب العربية قاطبة؟ وكيف تغمض عين هذه الشعوب، فيما هؤلاء القابعون في ظلام السجون، ويعيشون على حافة الموت، والذين إنما وصلوا لهذا المصير لأنهم حملوا على أكتافهم هموم وأحلام هذه الشعوب، وانخرطوا في قضاياها المعقدّة أملا في تحصيل حقوقها؟

من سوريا إلى مصر، وجميع البلاد العربية بلا استثناء، تغص سجون الأنظمة الحاكمة بمئات آلاف السجناء، والجزء الأكبر منهم من فئة الشباب، نسبة كبيرة من هؤلاء مهددون بالموت تحت التعذيب، أو بالإعدام، وفي أقل الحالات سوءا، يمارس عليهم أقسى أنواع العذاب. وهم بطبيعة الحال ليسوا بين أيد امينة، بل تتحكم بمصائرهم عصابات أجهزة الشرطة والأمن، ذات السمعة الرديئة والذهنية الإجرامية.

هؤلاء وصلوا إلى هذا المكان وهذا المصير، بعد أن كانت نقطة انطلاقهم قضايا مجتمعاتهم وهمومها، وأغلبهم لم ينطلقوا من شأن خاص، ولم ينتظروا تحقيق مصلحة خاصة أو عائلية، ولكنهم تحولوا بعد ذلك إلى قضية خاصة لعائلاتهم الصغيرة، إلى عبء ووجع دائم محصور ضمن دائرة ضيقة جدا، وهو ما يزيد من إضعافهم وإضعاف عائلاتهم، ويقوي موقف السلطات الحاكمة التي استطاعت عزل هؤلاء عن الدائرة المجتمعية الأوسع، وتحويل قضاياهم الوطنية الكبرى إلى مجرد أحداث فردية مخالفة لقانون الجنايات، وتحويلهم إلى سجناء جنائيين.

 

هؤلاء وصلوا إلى هذا المكان وهذا المصير، بعد أن كانت نقطة انطلاقهم قضايا مجتمعاتهم وهمومها، وأغلبهم لم ينطلقوا من شأن خاص، ولم ينتظروا تحقيق مصلحة خاصة أو عائلية

وهؤلاء المعتقلون كانوا يتقدمون مظاهراتنا يوم اندلعت الثورات، ويوم هبت الشعوب غاضبة متمردة على نير الاستبداد وجور الظلم والتهميش، كانوا أكثرنا شجاعة وحبا للتضحية، تركوا عائلاتهم الصغيرة واندمجوا بالعائلة الأكبر، المجتمع الوطني، وكانوا يفعلون ذلك لأنهم ضنينون بدمائنا، مشفقون على أحوالنا، مبدون الاستعداد لتحمل الصفعات الأولى، ريثما يتسنى لنا أخذ الحيطة والحذر.

ما حصل، أن أغلب شعوبنا إما عادت لممارسة حياتها الطبيعية بطريقة أو أخرى، سواء كظمت الغيظ أو تكيّفت مع الواقع وخضعت له، أو أنها تبحث عن فرصة أخرى لمواصلة الثورة. لكن في كل الأحوال جرى نسيان قضية سكان الأقبية الأمنية ونزلاء سجون العصابات، وهم بعشرات الألوف، تستفرد بهم ذئاب بشرية لا تعرف الرحمة، وتضع عائلاتهم في دائرة الابتزاز والخطر، تُركوا وحدهم ينتظرون مصائرهم المجهولة، ويمررون، بشق الأنفس، يوميات العذاب القاسية.

إذا جاز لنا التحدث بمنطق الوفاء والخيانة، فهؤلاء المعتقلون هم ضحية مجتمعات لا تفي بوعودها، هم شباب جرى توريطهم من قبل مجتمعات رفعت شعارات كبرى عن الحرية والخلاص من العبودية، لكنها في لحظة حاسمة تراجعت عن شعاراتها وأحلامها. في تلك اللحظة، لم يكن التراجع حلا ناجعا لمشكلة فردية؛ لأن القضية تعقدت أكثر بكثير مقارنة بلحظة انطلاق شرارة الثورات، ولأن التداعيات السلبية للحدث انزاحت لتحط على كاهل من تم القبض عليهم، أو من رصدتهم وسجلتهم التقارير الأمنية.

 

فهؤلاء المعتقلون هم ضحية مجتمعات لا تفي بوعودها، هم شباب جرى توريطهم من قبل مجتمعات رفعت شعارات كبرى عن الحرية والخلاص من العبودية، لكنها في لحظة حاسمة تراجعت عن شعاراتها وأحلامها

صحيح أن المجتمعات لم تفعل ذلك رفاهية، بل هي تعرضت لفواجع تفوق قدرتها على التحمل، لكن ذلك لا يعفيها من البحث عن سبل لإنقاذ آلاف الشباب من جحيم سجون الأنظمة العربية، ومصائر مجهولة يصنعها أشخاص لا علاقة لهم بالأوطان والوطنيات. وثمة أساليب كثيرة، في الداخل والخارج، يمكن من خلالها تسليط الضوء على معاناة المعتقلين وفضح جرائم الأنظمة بحقهم.

هنا يأتي دور المعارضات العربية في الداخل والخارج، وجميع النخب السياسية والفكرية، والأحزاب والنقابات، التي تحترم نفسها، وترفض في الآن نفسه أن يذهب المعتقلون ضحية جرائم الأنظمة. وإذا استطاعت الأنظمة التسلطية النجاة من السقوط مرحليا، فإنه يجب ألا يسمح بانتصار روايتها عن الحدث، وبأن هؤلاء المعتقين هم إما مخربون أو ظلاميون أو خونة، وسكوتنا (سكوت النخب والمعارضات والأحزاب) سيكون بمنزلة تصديق لهذه الرواية.

ماذا سنقول مستقبلا عن مأساة هؤلاء؟ لم يدقوا جدران السجون؟! لقد سمعنا صرخاتهم، ورأينا جثثهم، ووصلت إلينا صور أجسادهم المتهالكة من التعذيب والجوع والقهر. لقد أخبرتنا المغتصبات ماذا يجري للحرائر داخل سجون العصابات، وصفوا لنا بدقة لا يستطيع أعظم الرواة إتقانها؛ مناخ ذلك الجحيم وأوضاع نزلائه التعساء، حتى كدنا نسمع أنين الأطفال، ونشم رائحة تعفن جروح السجناء قبل موتهم، ونشاهد عمليات الاغتصاب الجماعي، لكننا تركنا لحمهم للوحوش وقلنا نجونا.. الحمد لله على السلامة.