قضايا وآراء

بين هيكلنا وهيكلهم.. ضاعت الدماء الطاهرة (1-2)

1300x600
من الإشكاليات الكبرى الملموسة في الحياة السياسية في مصر؛ ما قد يصلح أن نُطلق عليه للتبسيط "العنصرية الهيكلية" للكيانات السياسية، وهي عبارة عن أن كل كيان سياسي (سواء حركات، أحزاب، أو حتى المؤسسة العسكرية بدخولها معترك السياسة منذ أكثر من ستين عاما، رغم اعتراضي على هذا التوصيف لها)، يتحيز لفلسفة وثقافة وقواعد هيكله وتقديسه له.

ومن الطبيعي أن يكون لكل هيكل حُرّاسه؛ أعطاهم الله من (وجهة نظرهم) الحق وحدهم في الحفاظ على هذا الهيكل وتهيئة أعضائه للحياة الكهنوتية الأبدية داخل أسواره الفلسفية العالية المغلقة، التي تعاقب على بنائها حراسه جيلا بعد جيل، بحيث أصبحت قيمة وقدسية الهيكل أغلى من قيمة كل أفراده، ومن ثم يطالبون كل الأفراد بالتضحية بكل ما لديهم حتى آخر أنفاسهم ليعيش الهيكل، الذي قد يكون هيكلا لحزب أو حركة أو مؤسسة، أو حتى هيكلا لوطن بائس.

ويُجبر كل أفراد هذا الكيان أن يعيشوا في "شرنقة الهيكل"، فيصبح ما يسمح حراس الهيكل بدخوله من الشرنقة هو كل ما يدركه عقل الفرد عن الحياة (سياسيا، اقتصاديا، عسكريا، قيميا، بيئيا، تقنيا، وقانونيا)، ويعيش هذا الفرد في هذا العالم الافتراضي بعيدا عن الواقع الحقيقي ومتغيراته. ويقوم حراس الهيكل بإدارة عالمه من منظور فلسفي، ويراقبون بدقة وعن قرب كل صغيرة وكبيرة محيطة بالفرد، ليحافظوا على تيقنه من أن ما يعيشه هو الحقيقة المطلقة، وكل ما هو خارج فلسفة هيكلهم لا يمثل إلا فسادا وإفسادا وحق تدميره ومحوه.

وليكتمل مشهدهم، فلا بد من إضفاء القدسية على حراس الهيكل، فهم وحدهم من أوكل الله إليهم إعمار الأرض وإدارتها ومحاربة الفجّار ممن يخالفون شرع الهيكل، من أفراد أو مشاريع، حتى ولو أتى ذلك من حلفاء أو إخوة؛ فالحقيقة المطلقة هي هيكلهم، والمشروع الرباني هو هيكلهم، والقادة الربانيون هم حراس هيكلهم.

ويجتهد حراس الهيكل أكثر في وضع أطر ومسلمات لحياة أعضائه وعلاقتهم بالآخر، ولا يُسمح للفرد أن يحيد عنها ولا حتى مجرد التفكير في نقدها، وتحقير وعدم تقبل الآخر، والشخصنة والتفرد في الرؤى وشيطنة الآخر، وكلها ضد الفطرة وضد الثوابت الأخلاقية.

وتحضرني هنا القصة الفلسفية لفيلم "THE TRUMAN" للممثل الأمريكي المبدع "Jim Carrey"، التي حاكت هذه القضية بمنتهى الحرفية والإبداع. فالبطل يعيش في إطار هيكل مزيف، وكل أفراده الذين يتعامل معهم مزيفون، وعندما يكتشف الحقيقة يحارب ليهرب للواقع، فيدخل في صراع شديد مع حراس الهيكل ليمنعوه من معرفة الواقع والحياة الحقيقية.

ومن هنا، نستطيع أن نلخص تعريف البيئة السياسية التي يعيش فيها الأفراد في مصر بالبيئة الحاضنة لهياكل مزيفة تسمى كيانات سياسية، تفرخ قيادات تفتقد أساسيات رجالات الدولة والقدرة على التعاطي مع فلسفة وأفكار العالم المحيط بها داخليا وخارجيا، وأساسيات العمل الجماعي والاعتراف، فضلا عن احترام الآخر.

وتعجز هذه القيادات حتى عن النقد الذاتي لفلسفة كياناتها ومنهجية حراس هيكله. أما الخارج عن ثقافة الهيكل، فقد استُحل دمه وعرضه وماله وفكره، ومصيره المحتوم هو الوصم بالخيانة والحرب والقتل المعنوي. ليس هذا فحسب، فمجرد اختلاف مصلحة أحد حراس الهيكل مع أحد كوادره في أمر ما، أو حتى حقده الشخصي على تميزه، قد يقود إلى النتيجة نفسها من التخوين والقتل المعنوي.

وهنا نقف أمام نتيجة كارثية في الحياة السياسية المصرية، وهي كوادر لم تتربَ تربية سليمة حزبيا، وتفتقد لأبسط معايير اختيار قيادات الدولة أو القيادات الحزبية، فيتم التصعيد بمعيار مدى القرب العاطفي من حراس الهيكل أو بالأقدمية، أو أحيانا بمدى قدرته على تخليق شبكة مصالح منتفعة أو تبرعات المالية، وتقتل معنويا أو تطرد كفاءات لمجرد الكفاءة الشخصية وتضاربها مع مصالح حراس الهيكل الشخصية.

وتصبح القيادات الحزبية، ومن ثم قيادات الدولة، مشوهة وغير مكتملة النمو السياسي، ولم تتلق المفاهيم والأساسيات والمعارف، ولم تتدرب على الأدوات العملية، ولم تكتسب مهارات الاتصال مع الآخرين، وكل فلسفتها هي الحفاظ على الهيكل، حتى وإن كان الهيكل قضت عليه دابة الأرض.

وتتراكم السقطات والأخطاء، ويُكسر زجاج نافذة المروءة، ويدمر بناء المبادئ والقيم الحزبية والخصومة الشريفة، حسب النظرية الاجتماعية المعروفة "النوافذ المكسورة"، فيتجرأ البعض ليجعل من نفسه تعريف الكيان، فهو الجيش وهو الوطن، وآخر يصبح هو الجماعة، وهو الحزب أو الحركة، وتدور حروب الهياكل من أفراد مرضى نفسيين مفتقدي الأهلية للعمل السياسي، وتُستغل الكيانات لتحقيق رؤى وأغراض شخصية بعيدة كل البعد عن مصلحة الوطن، ويقتل ويشرد أبناء الوطن، وتغتصب نساؤه بدعوى الحفاظ على الهيكل والانتقام من الهيكل ولمصلحة الهيكل، والحقيقة أنها لأغراض شخصية بعيدة كل البعد عن مصلحة حقيقية لوطن حقيقي.

ويصل مشهد الدولة المصرية إلى ضياع الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين، حتى مجرد الحق في الحياة، ووصول أسوأ ديكتاتور دموي في التاريخ المصري الذي عرف نفسه بأنه الوطن، وفلسفته هي فلسفة الوطن، ووظف هيكل المؤسسة العسكرية وهيكل مؤسسات الدولة لحرق البلاد وقتل العباد، وتهديد الأمن القومي، وخلق استقطاب مجتمعي لم تشهده مصر في تاريخها.

ولم يكن صعود نجم هذا المجرم في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ مصر والشرق الأوسط لقدرات فذة، ولا لذكاء خارق يتصف به، بل هي نتيجة تراكمات من صراع الهياكل السياسية المزيفة، وضياع النخب في الشرانق الهيكلية، والأمراض المزمنة للكتل السياسية في مصر.

فالتدخلات الخارجية في تصعيد قيادات الجيش وانفصال المؤسسة العسكرية عن الدولة بميزانيتها وقوانينها الحاكمة عن جسد الدولة، لتصبح منذ تموز/ يوليو 1952 دولة داخل دولة من جهة، كذلك لم تعرف الأحزاب والحركات السياسية المدنية الإدارة المؤسسية، ولم تضع المعايير والشروط العادلة لتنافس الكوادر القادرة على إدارة الأزمات والصعود كرجال للدولة، ولم تنشر ثقافة العمل الجماعي بين أفرادها بعضهم مع بعض، ولا بين أفراد الأحزاب والتيارات الأخرى في العمل الوطني، حتى لو كانت أحزابا منافسة كما هو في الغرب.

واستمر انهزام المعارضة أمام هذا المسخ بسبب تمدد هذا الفكر العنصري واستمراره على مستوى حوار الأحزاب والتيارات المعارضة بعضها مع بعض، فيقتل عمدا العمل الجماعي التشاركي "Participatory Teamwork" والتعاون، الذي يمثل العمود الفقري للعمل السياسي وإدارة الدول، فضلا عن ذلك الثقافة غير الأخلاقية التي تربى عليها بعض حراس المعابد الحزبية، وهي تضحيتهم بالشباب قربانا لهيكلهم الحزبي والحفاظ عليه.

وتبقى التساؤلات: هل المعارضة في الخارج التي لا تتعدى المئات وغير القادرة على التوافق بعضها مع بعض، قادرة على إدارة وطن فيه ما يزيد على مئة مليون شخص؟ وهل يليق بالجيش المصري بعد كل هذا التاريخ المشرف، أن يستخدمه ويقوده خائنٌ يقتل الأبرياء وينتهك الأعراض في مصر ويقودها إلى التهلكة؟ وأخيرا، هل عصمة هياكلهم والحفاظ عليها أشد عند الله حرمة من عصمة دمائنا؟