قضايا وآراء

العرب نهاية عقد مأساوي.. ماذا عن المقبل؟

1300x600
شهور قليلة تفصلنا عن نهاية العقد الثاني من الألفية الثانية، يمكن القول إنه كان أكثر أزمنة العرب الحديثة تعقيدا وبؤسا، ففيه شهد العالم العربي تحوّلات صنعها بلحم شعوبه ودمهم، لكن التحوّلات لم تنضج بما يكفي لإنتاج أوضاع عربية أفضل، وما زالت الأحداث جارية والتطورات سائلة، ما يدفع للتساؤل عما إذا كان العرب سيرحّلون أزمتهم للعقد القادم.

ما الذي حصل وكيف؟ هذا السؤال الذي جرت الإجابة عليه بقراءات عديدة وصيغ مختلفة من قبل جميع سكان هذا الحيّز الجغرافي العربي، نخبا وعامة، يبقى إلى اليوم منتصبا وفاغرا فاه في عقول الملايين وأذهانهم.

لم نكن سوى أمة دخلت زمن العولمة بأدوات العصور الوسطى؛ ففي حين كان العالم يحرق المراحل بسرعة البرق في مجالات التطوّر الهائلة في المستويات التقنية والعلمية وأنماط الحكم السياسية، كانت أجيالنا الحديثة تشاهد، عبر قنوات الانفتاح العولمي، من فضائيات وإنترنت، هذه العوالم الأسطورية، وتقارنها بما نحن عليه، لدرجة اعتقدت معها إما أن العالم الخارجي خرافي ومجرد تركيب صور مصنوعة لنا خصيصا بقصد إبهارنا، وإما نحن أمة قرود، ما زالت لم تصل بعد لمرحلة التطور البشري!

وبما أن العالم ليس خرافة، وبما أننا بشر نشبه الآخرين، إذا ثمة خلل ما في هذا الواقع هو المسؤول عن صناعة الفوارق الهائلة ببننا وبين العالم الخارجي، هذا الخلل عبرت عنه أجيال سابقة عبر سؤال: "لماذا تطوروا وتأخرنا"؟ بيد أنه مع بداية الألفية الثانية انتهت صلاحية هذا السؤال ومشروعيته، ولم تعد مناسبة إعادة طرحه، ليس لأنه لم يعد ثمة وقت لانتظار الإجابة التي طال انتظارها، بل لأن الأيام كشفت كل تفاصيل تلك الإجابة، وأشرت بإصبعها عن الطرف المسؤول عن تعطيل تقدمنا ولحاقنا بحضارة البشر؛ حضارة القرن الواحد والعشرون.

إنها النخب الحاكمة، ببناها السياسية والاقتصادية والفكرية، أو بالأحرى، العصابات الحاكمة، تلك التي تعاملت مع الحكم بوصفه حقا حصريا لها؛ يبيح لها السيطرة على المجتمعات والتحكم بها وتشكيلها على هواها ومقاساتها، وينحصر كل همها في كيفية الحصول على أكبر قدر من الربح والفائدة من ثروات البلدان، ومن جهود العمال والفلاحين والتجار. أما التنمية وخدمة المجتمعات، فهي مسائل هامشية لا يجري الاهتمام بها إلا بقدر الأرباح التي يتم تحصيلها منها لجيوب العصابة الحاكمة.

يعرف أولئك الذين قرّروا حمل عبء الثورة على عاتقهم، أن ثمة عوائق بنيوية كثيرة أعاقت تطور مجتمعاتهم، ووضعت بلدانهم في هذا الموقع الضعيف في السياق الحضاري؛ من الاستعمار المديد إلى ظروف التبادل غير المتكافئة، إلى التعقيدات الاجتماعية والبنى المتخلفة في الثقافة والفكر، لكن تبقى الأنظمة السياسية الحاكمة هي علة العلل؛ فاليابان وتايلاند والبرازيل، وغيرها الكثير من الدول، لم تكن تختلف معطياتها عن معطيات العالم العربي. فحتى الدول الأوروبية نفسها، رزحت في يوم من الأيام تحت عبء هذه المعطيات، لكن الجميع تجاوزوا وقائعهم وحققوا نتائج باهرة على جميع الأصعدة؛ عندما وُجدت خطط حقيقية لتطوير المجتمعات، وأنظمة سياسية عازمة على تغيير الواقع.

ما أرادت الثورات العربية قوله؛ بأنه لم يعد ممكنا الاستمرار بأدوات الماضي للعبور إلى المستقبل، ولم يعد ممكنا التفرّج على العالم وهو يحرق المراحل لتحقيق الرفاه والكرامة لشعوبه، فيما لا زلنا نحن نعيش عصوره الوسطى. وما بدأنا نطالب به اليوم تجاوزه العالم منذ زمن بعيد، فقد سقط الحكام الآلهة منذ فجر النهضة الأوروبية، ولم تعد للسياسة قداستها، ولم يعد هناك رعايا، بل مواطنون أحرار ومتساوون، وطالما يدفعون الضرائب ويحترمون القوانين؛ فهم شركاء في السلطة وتقرير المصير.

ينتهي العقد الثاني للألفية الثالثة بنتائج سلبية في كل أنحاء العالم العربي، بسبب الحرب الدموية الشرسة التي شنتها الثورات المضادة عبر رفضها التنازل عن حقها في احتكار السلطة والثروة، ولأن الثورات لم تكن متجهزة بما فيه الكفاية لمواجهة كهذه. حصل مثل هذا الأمر في ثورات أوروبا 1848، حين فشلت الثورة في جميع بلدان أوروبا، لكن لم يمض وقت طويل حتى عادت وانتصرت الثورة، وفي العالم العربي.

ومن المرجح أن تكمتل الثورات في العقد القادم وتحقّق أهدافها، فمن المستحيل أن تقبل المجتمعات العربية العودة للوراء، كما أن الأنظمة خسرت جزءا كبيرا من طاقتها، ولن تعود قادرة على خوض جولات صراع جديدة، وباتت خياراتها بين تقديم التنازل والسقوط.