مقالات مختارة

بعد ستين عاما… أوبك مهددة بالتفكك

1300x600

ستة عقود من العمل لا تعني ضمان بقاء أي منظمة أو كيان سياسي أو اقتصادي. فقد مارست منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) عملها منذ تأسيسها في 1960، لتنظيم السوق النفطية، وحققت نجاحات معقولة بتعاطيها مع عاملين أساسيين في هذه السوق: سقف الإنتاج وسعر البرميل. وقد شهدت صعودا وهبوطا في أدائها وفي علاقات دولها بعضها مع بعض، كما تعرضت لهزات كبرى تارة بانسحاب بعض أعضائها، وأخرى بالاختلاف على حصص الإنتاج لكل من الدول الأعضاء، وثالثة باستهدافها أو استغلالها سياسيا. وما تزال الذاكرة تحتفظ بما حدث في اجتماعها في فينا في 1975 عندما اقتحم مسلحون متعاطفون مع القضية الفلسطينية بقيادة البرازيلي كارلوس، قاعة الاجتماعات واختطفوا وزراء النفط المجتمعين كرهائن، وكان من أبرزهم آنذاك الدكتور أحمد زكي يماني، وزير النفط السعودي، ولم تنته الأزمة إلا بوساطات معقدة انتهت بنقل الرهائن جميعا إلى الجزائر وليبيا واختفاء الخاطفين.


طوال تلك الحقبة، كان هناك تنافس على المنظمة من الداخل والخارج؛ داخلها كان هناك صقور تضغط لزيادة أسعار النفط وإن استدعى ذلك خفض الإنتاج، وحمائم تراعي مصالح الدول الغربية وتسعى للحفاظ على أسعار منخفضة. ويمكن اعتبار حرب أكتوبر 1973 بين الدول العربية والكيان الإسرائيلي إحدى المحطات المهمة في تاريخ النفط؛ فقد صدر عن الملك فيصل بن عبد العزيز تصريحات باحتمال استخدام النفط سلاحا في المعركة، أي قد يوقف تصدير النفط للدول الغربية فيما لو استمرت الحرب.
نجم عن ذلك صعود مفاجئ في الأسعار من حوالي 3 دولارات للبرميل الواحد إلى حوالي 10 دولارات. أوبك كانت محط أنظار العالم على مدى أكثر من أربعة عقود بعد ذلك، ولكنها تعرضت لانتكاسات عديدة أهمها انسحاب بعض الدول الأعضاء حفاظا على مصالحها. وفي شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي كانت دولة قطر آخر المنسحبين من المنظمة.


على مدى القرن الأخير احتفظ النفط بأهميته في دوائر الاقتصاد والسياسة، خصوصا أن أغلب الدول الأعضاء في أوبك يعتمد عليه مصدرا أساسيا للدخل، وأنه جعل البلدان العربية المصدرة للنفط دولا ريعية. هذا يعني أن اقتصادات هذه الدول ليست محكومة بقواعد الاقتصاد التقليدية، بل معتمدة أساسا على المدخولات النفطية، ولولا النفط لما كان لدول مثل المملكة العربية السعودية القدرة على التأثير السياسي الإقليمي. وإذا كانت المدخولات النفطية قد ساهمت في تنمية البلدان المصدرة للنفط، فإنها هي الأخرى أدت لتوسع نفوذ دول صغيرة مثل الإمارات التي أصبحت في السنوات الأخيرة تتصرف كدولة كبرى. بل إن هذه المدخولات كان لها دور في تمويل ظواهر سلبية عديدة من بينها التطرف الديني والإرهاب.

 

كما ساهمت في توسع نفوذ الدولة الريعية وأضعفت مشاريع الإصلاح السياسية وإقامة الدولة الحديثة التي يمارس المواطنون فيها دورا في سياسات بلدانهم. فبإمكان الحاكم الذي يتمتع بدخل نفطي كبير، تهميش شعبه وإلغاء دور مواطنيه في المسار السياسي. ولكن الأسوأ من ذلك تنامي ظاهرة الاستهلاك وتقلص الإنتاج وتضاؤل المهارات الوطنية، بسبب الاعتماد على العمالة المهاجرة. وأصبح الدخل النفطي سلاحا في معركة أنظمة الحكم مع شعوبها التي تطالب بالتعددية وتبادل السلطة وإطلاق الحريات العامة وممارسة أدوار رقابية على الحاكمين، وتعميق المحاسبة كوسيلة للحفاظ على المال العام واحتواء ظواهر الفساد والمحسوبية.


منظمة أوبك، برغم دورها التاريخي، ما تزال تخضع للمماحكات بين أعضائها خصوصا عندما يسعى بعض الأعضاء لاستغلال المنظمة لتحقيق نقاط ضد عضو آخر يختلف معه سياسيا. ويمكن اعتبار المرحلة الحالية من أصعب الأوقات التي تمر بها المنظمة. هذه المرة تمثل السياسة الأمريكية تجاه إيران مصدرا للتوتر داخلها؛ فواشنطن تمارس ضغوطا كبيرة لخفض مبيعات النفط الخام الإيراني إلى الصفر بمساعدة من منافسين لطهران في المنظمة. ويوم الخميس الماضي قال وزير النفط الإيراني بيجن زنغنه «إن إيران سترد إذا هدد أعضاء آخرون في منظمة أوبك مصالحها». وكانت الولايات المتحدة قد طلبت من المشترين للنفط الإيراني وقف مشترياتهم مع بداية هذا الشهر (مايو/أيار) أو مواجهة عقوبات، لتنهي بذلك إعفاءات استمرت ستة أشهر أتاحت لأكبر ثمانية مشترين للخام الإيراني، ومعظهم في آسيا، استيراد كميات محدودة. ورحبت السعودية بالتحرك الأمريكي لإنهاء جميع الإعفاءات، وقالت إنها مستعدة لتلبية طلب مستهلكي النفط بإمدادات بديلة عن الخام الإيراني. فماذا يعني ذلك؟


ليس مستبعدا أن ينتقل الصراع السياسي بين السعودية وحلفائها من جهة وإيران من جهة أخرى إلى داخل أوبك، الأمر الذي قد يؤدي لانهيارها. هذا الأمر مقلق جدا لأمينها العام النيجيري محمد سنوسي باركيندو الذي صرح في أثناء حضوره مؤتمرا للنفط والغاز في طهران قائلا: «أوبك تحاول فصل النفط عن السياسة». وردا على سؤال حول ما إذا كان ممكنا من الناحية الفنية تنفيذ عقوبات الولايات المتحدة على إيران؟ قال باركيندو: من المستحيل إزالة النفط الإيراني من السوق. وتشعر إيران بالغضب من سياسة الإنتاج المرتفع التي اعتمدتها السعودية وروسيا بعد دعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى ضخ المزيد من النفط لتعويض الانخفاض في الصادرات النفطية الإيرانية، جراء العقوبات الأمريكية المفروضة عليها. منذ تأسيسها في العام 1960 استطاعت أوبك أداء وظيفتها بين صعود وهبوط. وبرغم تصريحات أمينها العام، باركيندو الذي قال: واجهنا مشكلات في أوبك في الستين عاما الماضية، لكن تمكنا من حلها بالوحدة»، فإن التحديات التي تواجهها اليوم توسعت كثيرا، خصوصا مع رغبة بعض الدول كالسعودية والإمارات بتوسيع نفوذهما الدولي واستخدام النفط وعائداته أداة لتحقيق ذلك.

 

ويفاقم من أزمة أوبك الصراعات السياسية خارجها؛ فأمريكا تسعى للهيمنة على قرار أوبك من خلال الدور السعودي فيها، وتبذل جهودا كبيرة لمحاصرة إيران وقدراتها النفطية من زوايا عديدة منها منظمة أوبك. ويمكن القول إن السماح بذلك سيؤدي إلى حالة استقطاب غير مسبوقة تعيد إلى الأذهان تلك الصراعات التي تفاقمت في حقبة الحرب الباردة بين المحسوبين على المعسكرين الشرقي والغربي. وليس خافيا أن أمريكا حققت اختراقات في ذلك الصراع، تنعكس في الوقت الحاضر على توازن القوى داخل أوبك.

 

التوترات المرتبطة بعدد من الدول الأعضاء في المنطمة لا يمكن عزلها تماما عن عمل المنظمة وقراراتها. ويؤكد باركيندوا ذلك بقوله: ما يحدث في إيران وفنزويلا، أو ليبيا يؤثر على السوق بأكملها وعلى قطاع الطاقة. يضاف إلى ذلك أن الصراع على مصادر الطاقة يزداد احتداما، يتمثل ذلك بسعي بعض الدول الأعضاء لامتلاك مصادر أخرى خصوصا النووية، كما تفعل السعودية والإمارات، وقبلهما إيران، وكذلك تطوير إنتاج النفط الصخري الذي جعل أمريكا أكبر دولة منتجة للنفط، متخطية السعودية. كما يتمثل بالصراع على مسارات النفط. وتتصدر الإمارات هذا التوجه بسعيها للسيطرة على المنافذ المائية الاستراتيجية. فقد حققت نفوذا واسعا في منطقة باب المندب بعد السيطرة على عدد من الموانئ القريبة منه، وتسعى للسيطرة على الجانب الجنوبي من مضيق هرمز الذي يخضع للسيطرة العمانية في الوقت الحاضر. كما أن هناك الصراع على أنابيب النفط والغاز وهو صراع شائك، وإن كان لا يحظى باهتمام إعلامي واسع.


ماذا عن القرار الأمريكي بتصفير تصدير النفط الإيراني؟ الواضح أن استخدام منظمة أوبك لتفعيل ذلك لم يعد قادرا على تحقيقه، بعد أن نجم عن المحاولة اضطراب في سوق النفط وأسعاره صعودا وهبوطا.

 

عن صحيفة القدس العربي