قضايا وآراء

قوس التحول الديمقراطي في بلاد المغرب

1300x600

تشهد ثلاث دول مغاربية سيرورات سياسية تروم إقامة تحولات ديمقراطية أبنيتها الثقافية والمؤسساتية، هي تحديدا: موريتانيا والجزائر وتونس. ويُرجح إن تمكنت هذه الديناميات من إدراك مداها العميق أن تفتح المنطقة برمتها على مرحلة جديدة، متميزة عن سابقاتها، ومتقدمة بالنسبة للكثير من البلاد العربية. 

 

صناديق الاقتراع في موريتانيا وتونس


ففي موريتانيا حمل التنصيب الدستوري الجديد للرئيس المنتخب "محمد ولد الشيخ الغزواني"، الكثير من الدلالات السياسية، كما وضع اللبنة الأولى لثقافة سياسية لم تكن مألوفة عند المورياتنيين، أي الانتقال السلمي والسلس للسلطة عبر انتخابات رئاسية، فتاريخ الانتقال إلى سدة الحكم في هذا البلد ظل محكوما بالانقلابات العسكرية، بل إن الرئيس المُنصّب نفسه (آب / أغسطس 2019)، شارك في هذا التاريخ، وساهم في إسقاط سلطة وإعادة إقامة أخرى.. ومع ذلك، وبغض النظر عن طبيعة علاقته بصديقه الرئيس السابق " محمد ولد عبد العزيز" ورفيقه في السلاح والانقلابات، فقد دشّنا معاً تقليدا لم تألفه مجمل النظم العربية، أي تسليم السلطة الناتجة عن صناديق الاقتراع إلى رئيس جديد، بإشراف الهيئة الدستورية ذات الصلة (المجلس الدستوري)، وأداء القسم، وتوجيه خطاب إلى المواطنين والرأي العام الإقليمي والدولي. 

وفي تونس، البلد الذي قطع أشواطاً مهمة في البناء الديمقراطي، ويتوق إلى توطيد مكتسباته الشرعية والسياسية، يعيش التونسيون حماساً وتدافعا سياسيين قلّ نظيرهما، من أجل انتحاب رئيس جديد خلفا للمرحوم "محمد الباجي قايد السبسي". 

 

المطلوب وبإلحاح أمران لا ثالث لهما: العيش الكريم ومفتاحه الحرية، أي احترام آدمية الإنسان، والعدالة الاجتماعية،


فمن مؤشرات هذا الحماس كثرة عدد المترشحين للانتخابات الرئاسية، حيث وصل عددهم بحسب بيانات "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" 98 مترشحا، وهو رقم لم تشهده تونس على الإطلاق منذ أول انتخاب رئاسية تقدم لها المرحوم الحبيب بورقيبة منفردا في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 1957. 

ومن المؤشرات أيضا تنوع قائمة المترشحين واختلاف مكوناتها، حيث شملت كل ألوان الطيف السياسي، من يمين ووسط ويسار، ومستقلين، وجمعت تباين الأعمار، والخلفيات، والنوع الاجتماعي..

ولعل القاسم المشترك لهذا الكمّ اللاّفت للانتباه، الحضور القوي للسياسة، والوعي المتنامي أهميتها في استكمال حلقات التحول الديمقراطي في البلاد التونسية. فقد سمحت السنوات التي أعقبت سقوط النظام (2011 ـ 2019)، للتونسيين، نخبة ومجتمعا، بإعادة  التصالح مع السياسة ومتطلباتها، ومكنت الفاعلين من مختلف مواقعهم من التنافس والتدافع من أجل إنجاح تجربة التحول والانتقال إلى الديمقراطية.

الجزائر.. مفتاح الانتقال الديمقراطي في المنطقة


أما في الجزائر ـ البلد الذي مازال محافظا على سلمية حراكه الاجتماعي، وحرصه على تماسك مؤسساته ـ فالحاجة ماسة لأن يتحقق تطور نوعي في دينامية الحراك من أجل التغيير الديمقراطي، بل هناك ضرورة قُصوى لأن تتوضح أكثر معالم المرحلة المقبلة، أي المرحلة التي ستفضي إلى إرساء أسس البناء الجديد، الذي لن يكون غير ما ناضل من أجله الحراك الشعبي منذ شهور. 

إن موقع الجزائر في خريطة قوس التحول الديمقراطي في بلاد المغرب أكثر من مهمة وإستراتيجية، بل نميل إلى الجزم بأن انتقال الجزائر ديمقراطيا سيفُك عُقدة الاستعصاء الديمقراطي الذي عانت وتعاني منه المنطقة المغاربية منذ استقلالها الوطني.

 

استراتيجيات إعادة تجديد الشرعية من قبل النخب القائدة، إما عبر شراء السلم الاجتماعي بواسطة الريع النفطي، كما هو حال الجزائر، أو من خلال انتهاج أساليب غير ناجعة على المدى المتوسط والبعيد، كما حصل في تونس والمغرب، لم تعد مقنعة ولا مجدية


لاشك أن أي تطور إيجابي في الدول المغاربية الثلاث، سيعزز فرص توطيد التحول الديمقراطي في هذه المنطقة من مغرب الوطن العربي. وإذا كانت مؤشرات حصول مثل هذا التطور الإيجابي غير واضحة للتأكيد على حتمية تحققها، فإن ضروراتها أكثر من حاضرة وضاغطة. فمن جهة الوعي السياسي، ثمة مؤشرات دالّة عن بداية تكوّن ثقافة سياسية جديدة، تروم القطع مع ثقافة الخضوع  والإتباع التي حكمت على مدار عقود علاقة النظم السياسية بالمجتمعات، وعطّلت أي تطور في اتجاه تيسير شروط الانتقال إلى الديمقراطية. 

 

تحديات الانتقال الديمقراطي في دول المغرب

كما أن هناك تحديات حقيقية تفرضها معطيات في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي المغاربي. فشرائح كبيرة وواسعة من المواطنين المغاربيين لم تصل نتائج سياسات التنمية المواكبة لإعادة الدولة الوطنية بعد الاستقلال إلى معيشهم، ولم يلمسوا في حياتهم ثمار هذه السياسات، بل إن فئات، كما هو حال الطبقات الوسطى، تعرضت مكانتها الاجتماعية للتراجع، وتقلص حجمها، ولم تعد تلعب الأدوار المنوطة بها، وفي مقدمتها المحافظة على التوازن والاستقرار. 

يُضاف إلى ذلك أن استراتيجيات إعادة تجديد الشرعية من قبل النخب القائدة، إما عبر شراء السلم الاجتماعي بواسطة الريع النفطي، كما هو حال الجزائر، أو من خلال انتهاج أساليب غير ناجعة على المدى المتوسط والبعيد، كما حصل في تونس والمغرب، لم تعد مقنعة ولا مجدية، وقد أكدت الوقائع الملموسة في كل بلاد المغرب أن المطلوب وبإلحاح أمران لا ثالث لهما: العيش الكريم ومفتاحه الحرية، أي احترام آدمية الإنسان، والعدالة الاجتماعية، بما يعني التكافؤ في الإمكانيات والفرص المتاحة. لذلك، فإن أي تأخير أو تعطيل لتحقيق هذين الأمرين سيفتح المنطقة برمتها على آفاق غير مضمونة ولا آمنة الضفاف.

يُنتظر من القيادة الجديدة في موريتانيا أن تفتح البلاد على التطور الديمقراطي المفضي إلى التغيير الجوهري في نمط السلطة ونوعية المؤسسات، وأية خطوة في غير هذا الاتجاه ستُكرس الثقافة السياسية السائدة سابقا، وستُؤخر البلاد أكثر. كما أن نجاح التونسيين في اختيار رئيس جديد، قادر على المحافظة على النفس الديمقراطي، وتعميقه وتوطيده بمكتسبات جديدة، سيحافظ للتونسيين على ريادة تجربتهم في التحول الديمقراطي. وإذا تمكنت الجزائر، نخبة ومجتمعاً، من أجل إنجاح المرحلة الإنتقالية وتحقيق جوهر مطالب الحراك في إعادة بناء شرعية سياسية جديدة، ومؤسسات نوعية، منبثقة عن الإرادة الحرة والمستقلة للمواطنين، فإنها ستكون إضافة نوعية في اكتمال قوس التحول الديمقراطي في بلاد المغرب.